ابني، يسعدني أن ذاكرتي تحثني دائماً على الكتابة إليك، أجدها تخبرني بأنك تريدني أن أكتب لك لنبقى على تواصل دائم، خلال هذه الرسالة سأخبرك بسرٍّ صغير بالنسبة لي، لكنه غَدَا كبيراً جداً حتى وسع الكوكب كله.
منذ أن بدأتُ ألتقيكَ هناك داخل ذاك المكان البائس، وأنا أشعر بأنك تكره ذاك المكان، أو بالأحرى تكره لقائي، وأنا ألتمس لك العذر كونك تعيش داخل أجواء محمومة مشحونة بسلبية هائلة تجاهي وتجاه كل مَن هم حولي، حتى تجاهكما أنت وأختك الغالية، إن مثل هذه الحقائق المفعمة بالشر تُشعرني بالراحة، مع ذلك فهي تدفعني باستمرار لأن ألتمس لك الأعذار الكثيرة؛ كونك بتَّ الآن ليس فقط تكره لقائي، بل تكرهني أنا أيضاً، كان لا بد لي دائماً أن أستحضر هذه الحقائق في وجداني.
بادئ الأمر كنتُ أعُدَّ الأيام والليالي عَدّاً من أجل أن يقترب موعد لقائي بك هناك، رغم أنني كنتُ أرجعُ إلى المنزل بعد أن نلتقي، مع شعور هائل بالتعب والإرهاق الشديدين، كنتُ أرتمي على سريري كمن عاد من رحلة تسلق جبال شاقة، كان ذلك جراء السلبية التي تكون خلال اللقاء، والتي تكون قد حُمِّلتها أنت لتُفرغها هناك بيننا.
كان ذلك الإرهاق يستمر ليوم أو اثنين، ثم أعود لأتحرّق شوقاً من جديد لهفةً إلى اللقاء التالي، ظلَّ الأمرُ كذلك حتى صرتُ أتثاقل من الذهاب إلى اللقاء، فلم تعد نفسي تحتمل هذا النوع من التعب والإرهاق الشديدين اللذين يتبعان لقاءنا، وأيضاً لأنني كنتُ أشعر كم كنتَ تكره المكان ولقائي فأحزن عليك كونك تأتي مرغماً، الأمر الذي دفعني في النهاية لأن أعتذر عن لقاءات كثيرة، فأُريحك من عناء الحضور ومن عناء لقائي، رغم ذلك كانت نفسي تؤنِّبني وتعاتبني على تضحيتي بها وحرمانها من لقائك، ليس من أجل راحتها بل من أجل راحتك أنت.
الآن، ربما تعتقدُ أنني كنتُ سأخبرك عن سري الصغير الذي ملأ في النهاية الكوكب، لا يا حبيب عمري، لم أخبرك عنه بعد، إلا أنني سأشرع في ذلك الآن، فمنذ لحظاتك الأولى، وأنت بين ذراعيّ أؤذِّنُ في أذنك، شعرتُ أنك نسخةً عني، وكَبُر هذا الشعور مع مرور الأيام والسنوات القليلة التي جمعتني بك تحت سقف واحد.
أنا أعلم جيداً أنك "بيتوتي"، تحب المنزل، وتحب أن تقضي معظم أوقاتك فيه، وتعشق الإجازات، وتكره الذهاب إلى المدرسة بشكل كبير، أنا أيضاً بيتوتي، أحب المنزل، وأعشق قضاء معظم أوقاتي داخله، وأحب أن أقضي إجازاتي داخله، أتنقل من غرفة إلى أخرى أشاهد الأفلام، أصنع الفطور والقهوة، أراقب الطبيعة من النافذة، أجلس على الشرفة في الصباح والمساء، أكتب، أقرأ، هذا معظم معنى السعادة بالنسبة لي، وأنا أعلم أنك كذلك.
رغم أنني أعشق الإجازات فإنها كانت قليلة جداً جداً في حياتي، فمعظم حياتي خارج المنزل في العمل، وكنت أتساءل كيف يشعر الشخص الذي أخذ إجازة من عمله عدة أيام أو أسبوعاً مثلاً؟ يا إلهي لم أكن أتصور أن يحدث لي نفس الأمر بالمرة، لكن ذات مرة وأنا أصلي لله إحدى تلك النوافل دعوته بأن يرزقني معظم سعادتي ولو مرة واحدة في عمري، وهي البقاء في المنزل، ليس كعاطلٍ عن العمل، بل كمجاز ولفترة معقولة، كأولئك الذين كنتُ أحسدهم على كثرة إجازاتهم وطولها.
أتعلم ما الذي حدث؟ أرسل الله إلينا فيروس كورونا، كوفيد-19، وأصبح أكبر إنجاز للبشرية جمعاء هو البقاء في المنزل، وأعظم الرجال هو الذي يلتزم في البقاء داخل منزله أطول فترة ممكنة، تصور؟! لكن من المؤكد أنني لستُ نبياً أو شيخاً ناسكاً حتى يستجيب الله لدعائي بهذا الشكل السريع والهائل، لكني أؤكد لك أن الظروف اجتمعت مع بعضها بشكل هندسي غريب وعجيب للغاية، يوم أن دعوتُ الله بلحظة ظهور كورونا اللعين ذاك، وأنت أيضاً يا حبيب عمري أعتقد أنك نظرت لهذا الوباء من منظوري هذا، كونك تحب الإجازات والبقاء في المنزل، هذا هو سري الصغير جداً الذي لم أُخبر به شخصاً غيرك إلى الآن، والذي وسع الكون كله، اسمح لي بأن أنظر إلى الأمر وإلى كورونا بهذه البساطة التي تشبه إلى حدٍّ بعيد بساطة عقلي وتفكيري.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.