حين قال صاحب المثل الشعبي "عدو عدوي هو صديقي" لم يدر في خلده يوماً أن تبلغ الانتهازية السياسية ببعضهم ليتحالف مع "خصم تاريخي قديم" ويستخدمه في أذية أتباعه وحلفائه بحجة إلحاق الضرر بعدوٍ مشترك أكبر، هذا ما تحقق خلال العقدين الماضيين في التحالف البراغماتي بين (تنظيم القاعدة) حامل لواء "الخلافة السلفية" و(الجمهورية الإسلامية في إيران) حاملة لواء "التشيع الإثنى عشري" .
قبيل أن تنهي إدارة ترامب فترتها الرئاسية وفي خطوة تصعيدية مع الجانب الإيراني وإحراجاً لإدارة بايدن الجديدة؛ صرح وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو بأن (تنظيم القاعدة اليوم يعمل تحت غطاء صلب بحماية النظام الإيراني)، هذا التصريح عالي المستوى لم يكن الأول من نوعه، ففي تقرير (لجنة أحداث 11 سبتمبر) الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 (ص 61) بينت معلومات استخبارية تاريخ التنسيق بين تنظيم القاعدة والقيادة الإيرانية بداية تسعينيات القرن الماضي على مستوى التدريب والتجهيز واكتساب الخبرة في معسكرات داخل السودان، سبق التقرير اتهام وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد، في فبراير/شباط 2002 للنظام الإيراني بتساهله والسماح لمقاتلي القاعدة الفارين من القصف الأمريكي بالدخول إلى الأراضي الإيرانية، عاد بعدها رامسفيلد في مايو/أيار 2003 ليجدد اتهام إيران بإيواء عناصر القاعدة المسؤولين عن التفجيرات التي هزت الرياض آنذاك.
الأدلة على التنسيق المسبق بين طهران والقاعدة عديدة -ليس آخرها اغتيال الموساد للرجل الثاني في التنظيم "محمد المصري" في أحد شوارع طهران أواخر 2020 – والأسباب التي دعت له كثيرة، ولم يعد بإمكان المنكرين الاستمرار في النفي والتشكيك خاصة مع كشف خيوط جديدة للعلاقة من أطراف أخرى غير واشنطن والتي يبدو أنها فضلت اتباع سياسة كشف الأوراق عند الحاجة.
التنظيمات "الجهادية".. الاستغلال والاستغفال في حروب الوكالة
استفادت إيران كثيراً من الدرس المجاني الذي منحته إياها الولايات المتحدة قرب حدودها الشرقية خلال حقبة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان حين دعمت واشنطن وحلفاؤها الفصائل الأفغانية لإلحاق الهزيمة بموسكو، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي بداية التسعينات ورفع الولايات المتحدة يدها عن دعم حلفائها "الجهاديين" وانغماسهم في أتون الحرب الأهلية: بدأت طهران بمد أيدي "حرسها الثوري" وتقديم الدعم لبعض الفصائل الأفغانية حماية لأمنها القومي ولمنع انجرار سكانها البلوش إلى الصراع ومصالح أخرى غيرها.
خلال تلك الفترة غادر بعض أفراد تنظيم "الأفغان العرب" الذي يقوده الثري السعودي "أسامة بن لادن" إلى السودان وبدأ بترتيب صفوفه تمهيداً لإعلان الحرب على الولايات المتحدة وحلفائها في الدول الإسلامية، ويبدو أن طهران قد وجدت ضالتها في هذا التنظيم الناشئ وقدمت له الدعم والتدريب اللازم عبر منظومة الحرس الثوري المرتبطة بالمرشد الإيراني وبعيداً عن أقبية الحكومة الإيرانية ودبلوماسيتها، في تحالف براغماتي سري غير ودي شهد مداً وجزراً على فترات، وضع الخلافات العقائدية جانباً وتطور بالخفاء لما يخدم مصلحة الطرفين ولم تكشف أوراقه بعد بشكل كامل.
ومع بدء العمليات الأمريكية في أفغانستان عام 2001 بعد هجمات سبتمبر/أيلول: هرب عدد من قيادات الصف الأول للقاعدة وعوائلهم وأفراد من عائلة بن لادن إلى الأراضي الإيرانية – كما يذكر المسؤول الأمني للتنظيم سيف العدل – ووضعوا تحت الإقامة الجبرية، وبعد احتلال واشنطن لبغداد: وجد الحليفان اللدودان الفرصة مواتية لإعادة التنسيق مع بعضهما لمواجهة عدوهما المشترك، منحت طهران حينها التنظيم ممراً آمناً لعبور المقاتلين والمراسلات والأموال والأسلحة إلى العراق لتحقيق أكبر ضرر بالأمريكان، بالتنسيق مع نظام الأسد في سوريا الذي ضرب أكثر من عصفورٍ بحجر واحد، وسلم نظام الولي الفقيه ملف العراق لقائد فيلق القدس الإيراني السابق الجنرال قاسم سليماني والذي أدار العمليات الأمنية والاستخبارية والعسكرية وفقاً لاستراتيجيته المعروفة بنقل المعارك بعيداً عن الحدود الإيرانية.
من المستفيد الأكبر من تحالف الأضداد، وما الذي تحقق؟
من الصعوبة الاسترسال في مقال قصير بذكر الأحداث والمواقف والشواهد المتعلقة بالتنسيق الإيراني – القاعدي في العراق، فقد فصّل فيها الخبراء والمحللون طوال السنين الماضية، ما يهمنا الإجابة قدر الإمكان عن التساؤل الأهم: من المستفيد الأكبر في هذا التنسيق؟
بعد مرور عقدين على الاحتلال الأمريكي لكابول وبغداد: بات من الواضح أن نظام الملالي كان المستفيد الأكبر من العلاقة الخفية – المباشرة وغير المباشرة – مع تنظيم القاعدة وما تفرخ عنه لاحقاً من واجهات "التوحيد والجهاد، تنظيم الدولة"، وقد تحقق لطهران مكاسب جمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نحاول إيجاز بعضها:
1. حماية الأمن القومي الإيراني من خطر التنظيمات "الجهادية"، فلم يتم استهداف إيران من قبل التنظيم – لغاية اللحظة – رغم العداء التاريخي والسياسي القديم، وتكشف ذلك أكثر عام 2014 بعد تصاعد الخلاف بين تنظيمي القاعدة والدولة والذي صرح ناطقه آنذاك "أبومحمد العدناني" في كلمته المعنونة "عذراً أمير القاعدة" بأن (الدولة الإسلامية) "لم تضرب في إيران تلبية لطلب القاعدة وللحفاظ على مصالحها وخطوط إمدادها"، مُضيفا أن"للقاعدة ديناً ثميناً في عنق إيران"!!
2. استخدام مقاتلي القاعدة كورقة مساومة وابتزاز في الصراع مع الأمريكان على النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني في العراق وزعزعة الاستقرار في المنطقة وإبعاد الخطر الأمريكي عن حدود إيران الغربية قدر المستطاع، وقد كشفت مصادر عسكرية أمريكية أوائل عام 2007 عن ضبط شحنات أسلحة متطورة إيرانية الصنع تستخدم في استهداف "قوات التحالف"، وفي ذات الوقت اعتقلت القوات الأمريكية عدداً من عناصر فيلق القدس الإيراني واتهامهم بدعم وتسليح "الجماعات المتشددة"، ثم ما لبثت أن أطلقت سراحهم بتعليمات عليا، وقد سعى الحرس الثوري – بقيادة سليماني – لإضعاف العراق وتحويله كدولة تابعة لإيران، وإبقاء الفصائل السياسية والعسكرية الموالية لطهران على رأس هرم سلطة النفوذ والمال في بغداد.
3. تأجيج الصراع الطائفي وتفتيت اللحمة الوطنية ودفع الشارع الشيعي للانحياز لإيران وأذرعها وسياستها بحجة حماية الشيعة، وكانت القاعدة خير وسيلة في تنفيذ هذه الاستراتيجية عبر تزويدها بالأسلحة والمتفجرات وتسهيل وصول الانتحاريين للمناطق الشيعية السكنية وتهريب معتقلي القاعدة من السجون العراقية، وقد أشارت أصابع الاتهام إلى طهران بمسؤوليتها عن تفجير مرقد الإمامين في سامراء أوائل فبراير/شباط 2006 لإشعال الحرب الطائفية كما ذكر قائد القوات الأمريكية السابق "جورج كيسي" فضلاً عن عددٍ من السياسيين الشيعة.
4. تدمير البنية التحتية الاقتصادية للمناطق السنية وتمزيق النسيج الاجتماعي فيها وإنهاء أي دور معارض للتدخل الإيراني في العراق والدفع باتجاه التغيير الديمغرافي السكاني بما يجعل منهم أقلية، وقد بات واضحاً تحقق ما سبق عبر دعم سيطرة مقاتلي القاعدة – وتنظيم الدولة لاحقاً – على المناطق السنية، ويكفي لإثبات ذلك مراجعة سجل اغتيالات التنظيم للشخصيات والرموز السياسية والاجتماعية والدينية السنية.
5. تشويه صورة الفصائل العراقية السُنية المقاومة وتصفية عناصرها وقادتها لصالح إبراز المتطرفين من تنظيم القاعدة والذي عمد إلى تصفية كل من يعارضه في المناطق الخاضعة لسيطرته، خاصة مع رفض فصائل المقاومة لاستراتيجية المتطرفين باستهداف الأبرياء والمدنيين والقتل والذبح على الهوية، وبالمقابل تم تضخيم دور الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في إخراج قوات الاحتلال من العراق رغم أن الغالبية العظمى من قتلى الجيش الأمريكي كانت في مناطق بعيدة عن نفوذ ووجود تلك الميليشيات.
6. إضعاف الوجود الدولي والعربي والإقليمي المنافس للدور الإيراني في العراق عبر استهداف البعثات الدولية والسفارات والشخصيات الدبلوماسية والرعايا الأجانب بعمليات تبنت القاعدة أغلبها، في المقابل ضغط التنظيم على أحد فصائل المقاومة العراقية لإطلاق سراح القنصل الإيراني في كربلاء والذي اختطفته أواسط 2004، في موقف يعكس الازدواجية في استهداف الأعداء!
بالعودة إلى الأمثال الشعبية، فيبدو أن نظام الولي الفقيه مؤمن بالمثل الإيراني القائل: "لا تقتل الأفعى بيدك، بل اقتلها بيد عدوّك"، فيكتفي بتزويد عدوه بالخفاء بما يحتاجه للقضاء على الأفاعي التي تحيطه، فعلها مع "عدوه الأمريكي" بمساعدته على إسقاط نظام طالبان ومن ثم نظام صدام، وفعلها مع "أعدائه" طالبان والقاعدة لإجبار الأمريكان على الانسحاب من محيطه، ولكن يبدو أنه لا يؤمن كثيراً بأن "السحر ينقلب على الساحر"، كما يقول المثل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.