تبوأت قضية فلسطين مكانة مركزية مرموقة في خطابات تيارات القوميين العرب طوال عقود عديدة من الزمن، لكن مشكلة هذا الخطاب القومي المفعم بالأحلام النبيلة، وبالأحلام الرومانسية، وبالكلام عن المصير المشترك ووحدة الآلام والآمال، أنه ظل يتكئ على العواطف والأيديولوجيات والشعارات، أكثر من اتكائه على الواقع الموضوعي، الناشئ عن نظام العلاقات والمصالح القطرية والسلطوية، التي باتت أكثر نفوذاً وهيمنة من كل الطوباويات والأيديولوجيات المشروعة أو الحالمة.
هكذا، فإن السؤال عن معنى ومكانة قضية فلسطين بالنسبة للعالم العربي، طوال المرحلة السابقة، ظل ينطلق من فرضية مفادها أن كل الجهود والإمكانيات ينبغي أن تكون في خدمة القضية الفلسطينية، وأن جدول الأعمال الخاص بالحكومات والمواطنين، والتوسطات المدنية بينهما، ينبغي أن يعطي الأولوية للصراع مع إسرائيل على غيرها من القضايا، بدءاً من قضايا المستوى المعيشي والتنمية، مروراً بقضايا الحريات والمشاركة والديمقراطية، وصولاً الى قضايا التكامل العربي، فهذه القضايا ينبغي أن تؤجل إلى حين الانتهاء من حل القضية المركزية.
على ذلك، فإن معضلة هذا الخطاب أنه خطاب عمومي لا يفرق بين القضية الفلسطينية واستحقاقاتها، بما هي قضية للفلسطينيين، وبين قضية وجود إسرائيل في المنطقة، باعتباره وجوداً يؤثر سلباً في العالم العربي، على أكثر من صعيد، بغض النظر عن وجود قضية للفلسطينيين من عدمه.
ومن ناحية ثانية، يبدو هذا الخطاب، في الحقيقة، متواطئاً مع الوضع العربي السائد، ومع خطاب الأنظمة التي رفعت راية قضية فلسطين، ردحاً كبيراً من الزمن، من دون أن تقدم شيئاً هاماً وملموساً لتلك القضية أو لقضية مواجهة التحدي الإسرائيلي، من الناحية العملية.
وقد أثبتت التجربة أن القضية الفلسطينية، وقضية الوجود الإسرائيلي في المنطقة، لم تشكلا في أي مرحلة أولوية في عمل الكثير من الأنظمة، بسبب بعدها الجغرافي، أو بسبب المشكلات التي تعاني منها. وأن دولاً أخرى اضطرت لوضع هذا الموضوع في أولوياتها بسبب موقعها الجغرافي، أو لحسابات سياسية معينة.
أما من ناحية الشعوب العربية، فقد ظل تعاطي المواطن العربي مع استحقاقات القضية الفلسطينية وقضية الوجود الإسرائيلي، في إطار المشاعر وتقديم مختلف أشكال الدعم للعمل الفلسطيني، ولكنه لم يتحول إلى حالة بحد ذاتها، إذا استثنينا الجهود المتفرقة والمحدودة للنخب العربية، التي تعمل أو التي تهتم بالسياسة في العالم العربي، وهي لا تمثل، في الواقع، إلا نسبة قليلة في المجتمعات العربية؛ إذ إن الغالبية العظمى من المواطنين لا يكادون يعرفون شيئاً عن العمل العام وهم بعيدون كثيراً عن الاشتغال بالسياسة أو بالعمل الحزبي، فضلاً عن أنهم يلهثون وراء لقمة العيش وتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحل مشكلاتهم الفردية، أكثر من انشغالهم بالقضايا العامة والقضايا المصيرية، ومن ضمنها قضية الصراع العربي ـ الصهيوني.
مما سبق يمكن الاستنتاج بأن الأوضاع العربية سواء على الجانب الرسمي أو على الجانب الشعبي، لم تكن في أي وقت من الأوقات، إلى الدرجة المناسبة لاحتضان قضية عربية مصيرية على مستوى قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، احتضاناً جاداً وفعالاً، رسمياً وشعبياً، بحيث يأخذ طابعاً موسمياً ومجتمعياً، إذا استثنينا تحديداً الأوضاع فيما سمي ببلدان الطوق، على تباين تعاطيها مع هذا الموضوع.
ونتيجة ذلك فمن الطبيعي أن تواجه قضية فلسطين في العالم العربي انتكاسات وتعقيدات ومعيقات، مثلها مثل أي قضية أخرى، كقضية التكامل الاقتصادي أو التبادل التجاري، أو المشاركة السياسية والديمقراطية، أو حتى توحيد مناهج التعليم، مثلاً!
ولعل كل ما تقدم يفسر ذهاب عديد من الأنظمة نحو تطبيع علاقاتها مع إسرائيل مؤخراً، وبشكل مجاني، ومن دون أي مقابل، لا بل إن بعض الدول ذهبت إلى حد بناء نوع من تحالف مع إسرائيل بخصوص بعض الملفات، وهي المحاولات التي لم تجد مقاومة مناسبة لها في البيئات الشعبية العربية بسبب الظروف الراهنة، وبحكم الاضطرابات الحاصلة في عديد من البلدان، وهو أمر يفيد بأن النظام العربي قفز مرة واحدة نحو تجاوز قضية فلسطين، وتالياً نحو إقامة علاقات مع إسرائيل، من قبل بعض أطرافه، بغض النظر عن حقوق الفلسطينيين، أو على حسابهم.
يستنتج من ذلك أن حل تلك المعضلة لا يكمن في إعطاء أولوية ما لهذه القضية أو تلك على حساب غيرها، وإنما بإعادة الاعتبار للمواطن العربي وللمجتمعات العربية ولقضية المشاركة والمصالح العربية والتكامل العربي. فمن الواضح أنه من دون ذلك، أي بدون مواطنين، وبدون مصالح مشتركة وملموسة، لا يمكن أن توجد قضايا كبرى، وحتى أنه لا يمكن أن يوجد من الأصل سلم أولويات مشترك، اللهم إلا في الخطابات ووسائل الإعلام، وفي الذكريات، ربما.
على أية حال فما يمكن تسجيله هنا أن الخطابات القومية لم تخفق في الشأن الفلسطيني فقط، إذ هي أخفقت في مجمل الشعارات التي طرحتها، شأنها شأن الخطابات الأيديولوجية الأخرى، لافتقارها إلى قيم الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية ومصالح الطبقات الشعبية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.