يعيش البعض منا عمره كأنه ومضة سريعة، شمعة قصيرة الأجل، فما أن يشتد وهجها حتى تأفل وتنتهي. والبعض الآخر منا يعيش الحياة كرحلة لن تتكرر، يُجرب فيها كل المشاعر، يسقط في حب اللذة بإرادته ليعرف قيمة الوجود والعيش في الحياة.
وكما الحياة، تأخذنا بعض الروايات في رحلات لن تتكرر. لنعيش تجارب أعمق من تجاربنا، ونتذوق مشاعر تروح وتغدو بين الألم واللذة، بين النشوة والزهد، بين الحياة والموت. ورواية "النبيذة" للكاتبة العراقية إنعام كجه جي واحدة من تلك الروايات القلائل التي تضعك في جوف الحدث لتعيش فيه بكل مشاعرك وتنغمس بكل ما فيك، تضعك في قلب حكاية بديعة تحكي عن الحب والشوق والظلم والألم، عن الغيرة، وعن الهجر، وعن الزمن الذي يزحف علی ملامحنا فيبدلها، ولكنه يعجز عن تبديل أثر الذكری في نفوسنا.
"إن البشر لا يصابون بالعَتَه من تراكم السنوات. بل تختلط عليهم التجارب الدفينة التي تُثقل دفاتر العمر".
حكايات النبيذة
الرواية متعددة الأطراف، يمسك بأطرافها كل فرد فيها ويحكي، وكأنه خُلق سارداً وراوياً ليحكي عن "تاج الملوك عبدالحميد" المرأة المقيمة في فرنسا والسيدة المتوجة في العراق والمولودة في إيران. حكايات ترويها الصحافية المخضرمة علی مسامع "وديان" العراقية المظلومة الغارقة في حكاياتها الوهمية مع رجال لم تمسّهم أبداً لحفظ ذكری خطيبها الذي هجرها ورحل!
"يمكن للزلازل، للحروب، ولأوراق اليانصيب أو الغرام الصاعق تحريف مصائر البشر عن مساراتها".
حكاية عن المشتتين المهاجرين، المظلومين في أراضيهم، والمُهجرين منها مثل "منصور البادي" الذي ارتحل إلی بلاد عديدة وفي قلبه حبه الأثير لتاجي التي لم يُخلق مثلها في أي أرض.
تقرر "تاج الملوك" أن تحكي للسيدة "وديان" امرأة هاجرت من العراق إلی فرنسا لتتلقی الرعاية اللازمة لأذنيها المثقوبة بسبب طيش وطغيان أحد رجال الحكم في دولتها. تتسلم "وديان" زمام الحكي من السيدة التي تكبرها بضعف عمرها، تشترك في حكاياتها وتتفاعل معها، تلضم الحكايات المتفرقة ببعضها وتحاول أن تساير المرأة ذات الذاكرة الحديدة في روعة حكايتها، يمتلأ قلبها بالغيرة من عجوز كانت في يومٍ ما امرأة لا مثيل لها، شربت من انهار اللذة واغتسلت بعسل الحياة ونامت هانئة في ليالٍ عديدة مع عدة رجال كانت نظرة واحدة من "تاجي" تجعلهم طوع إشارتها.
"- أنا مثل كرة اليويو.
– وما دخلها بموضوعنا؟
– يرميني حبل مطاط ثم يسحبني قبل أن أبوس أرض بغداد".
يدخل "البادي" في خط السرد، يحكي لوديان التي لم تكبر أبداً في عيون السيدة التي ضربتها الشيخوخة في كل مواضع جسدها إلا في ذاكرتها المتقدة ولسانها الذي يرطن بعدة لغات، يحكي "منصور البادي" عن ذكريات تهجيره من فلسطين وسكنه في بغداد وكراتشي الباكستانية ثم لبنان وحتی فنزويلا البعيدة التي أسس فيها عائلته وعاش فيها أكثر من نصف قرن لم ينس فيهم وجه المرأة الحزينة وهي تودعه من علی الباخرة التي أخذتها متجهة إلی مسقط رأسها.
"إذا أخطأت اللذة طريقها إليكِ، فشقّي دربكِ إليها"
نصيحة تاجي لوديان التي لم تعش إلا جزءاً صغيراً من الحياة قبل إصابتها بالصمم، وتاجي التي عاشت حياته بالطول والعرض لم تتوقف يوماً عن الركض وراء رغبتها في النجاح أو الشعور بقيمتها، ولم تتوقف رغبتها في العودة إلی العراق الجريح الذي مزقوه وفرقوه وشتتوا شعبه بسبب لعبة السياسة التي تتبدل فيها الآراء والمناصب كالكراسي الموسيقية.
رواية غارقة في عمق مشكلات المجتمعات العربية، عن حق المرأة وعن رغبتها في الحياة والتعبير، عن الحب والهجر. عن أحلام نعيش نتمنی أن نحصل عليها ولا نصل لها مثل "وديان"، وعن عمر يمتد لنصف قرن نتمنی فيه رؤية من نحب وما أن نراهم حتى نفرّ منهم خوفاً من تأثير العمر والأيام التي تزحف علی ملامحها مثلما حدث مع "منصور البادي"، عن الرغبة في الحصول علی الدفء والاستقرار، وعن مشاعر مختلطة بين الحب والكره والحنين والنسيان.
يكمن جمال الرواية في بلاغتها وإيجاز حواراتها، في جملها القصيرة التي توصل المعنی ببساطة. في تشابكها مع الواقع وتشاركها فيه، في العالم الموازي الذي صنعته "إنعام كجه جي" لتاريخ طويل للعراق وضعت "تاج الملوك" فيه كصاحبة حدث رئيسية مؤثرة فيه بلغة مصورة تنقلك من مكانك إلی أي سنة تتذكرها زوجة البطل الفرنسي الراحل في حديثها الذي يشبه النبيذ المعتق.
تتضافر الحكايات وتتداخل، وتقفز "تاجي" بين السنوات، تحكي عن ما حدث في الأربعينات والخمسينات وصولاً لآخر أيام الحكي ولقائها الوهمي مع "منصور البادي" تضربها الحمی لأيام ثم تستيقظ فجأة من سبات عميق لتفعل ما ترغب به، تسافر وتفعل ما تود فعله قبل انتهاء أوقاتها في الحياة المعقدة، تحكي وتبرهن بالأدلة التي تُلقيها تحت سريرها كل كلمة ترويها، امرأة حديدة تری الحياة بلا معضلة تستوجب التوقف في أي يوم للبحث عن حله، بينما رفيقتها التي امتدت رحلتها معها لعشرين عام لا تزال غارقة في ذكرياتها التي حفظتها بقلبها كصبارة مليئة بالشوك تُسقيها بالدموع وترعاها بالحزن علی أيامٍ مضت ولن تعود.
عن إنعام كجه جي
إنعام كجه جي، صحفية وروائية عراقية. وُلدت في بغداد عام 1952 وفي مرحلتها الجامعية درست الصحافة. عملت بعد تخرجها في الصحافة والراديو العراقي قبل انتقالها إلى باريس لتحصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون. تعمل حالياً مراسلة في باريس لجريدة الشرق الأوسط في لندن ومجلة "كل الأسرة" في الشارقة، الإمارات العربية المتحدة. كم صدر لها عدة روايات منها "سواقي القلوب" عام 2005، "الحفيدة الأمريكية" 2008، "طشاري" عام 2013، و"النبيذة" عام 2017 التي صدرت مؤخرَاً في أحدث طبعات سلسلة "روائع الأدب العربي" التي تصدر عن "دار المعارف" المصرية وتمتد عدد صفحاتها إلی 315 صفحة.
وصلت رواياتها "الحفيدة الأمريكية" و"النبيذة" إلی القائمة القصيرة لجائزة "البوكر" العربية عامي 2009 و2018.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.