الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة طرابلس في شمال لبنان، والتي تحوّلت الأمور فيها من حركة احتجاج على الواقع المأساوي وحالة البؤس الذي تعيشه المدينة، إلى أعمال صدامات ومواجهات وأعمال حرق وتخريب للممتلكات الخاصة والعامة، كمبنى البلدية والمحكمة الشرعيّة السُنّية وجامعة العزم وغيرها، بقدر ما كانت مسيئة وخطيرة على المدينة ومستقبلها بقدر ما كان فيها وجه إيجابي برز من خلال الإجماع العام في المدينة، وحتى على مستوى شمال لبنان أيضاً، على إدانة الفقر والأهمال المقصود والمتعمّد من الدولة لمنطقة الشمال عموماً ولمدينة طرابلس على وجه الخصوص، وإدانة أعمال التخريب والحرق والفوضى التي كادت أن تجتاح كل شيء وتحرق المدينة بكاملها، وقد كان إجماعاً من كل قيادات المدينة ومراجعها، ومن الشباب الذين لا يجدون فرصة عمل، "الثائرين" على الواقع المتردّي، ومن أهالي المدينة البسطاء، أهل الفطرة السليمة، الذين ما ملّوا التعبير عن تمسكّهم بالدولة التي تخلّت عنهم ورمت بهم إلى غياهب النسيان.
لقد خرج الناس، والشبّان على وجه التحديد في مدينة طرابلس يحتجّون على الواقع المعيشي والحياتي الذي بلغ مبلغاً لم يعد يُحْتمل، خاصة في ظلّ الإقفال العام والشامل الذي تفرضه السلطة تحت عنوان مواجهة تفشّي وباء كورونا، ودون تأمين أبسط مقوّمات الصمود والحياة للناس التي تعيش بما تحصّله من عملها اليومي.
كان متوقعاً أن يخرج الناس ليس في طرابلس فحسب، بل في كل لبنان رفضاً لهذا الواقع، غير أنّ حالة الفقر والإهمال المزمن الذي تعيشه مدينة طرابلس منذ عقود جعلها سبّاقة في الخروج للتعبير عن حجم المأساة التي بلغها الناس في المدينة.
غير أنّ المتربّصين بالمدينة، وبلبنان شرّاً، وربما هم الذين يقفون خلف كل هذه الأهوال التي يعيشها البلد، حرّكوا "طابورهم الخامس" مندسّاً بين الشبّان الغاضبين، وقام هذا الطابور بإحراق البلدية، والمحكمة الشرعية، ومحاولة إحراق سراي المدينة الذي يرمز إلى هيبة الدولة وحضورها، فضلاً عن محاولات إحراق وتخريب مؤسسات خاصة تُعدّ أحد شرايين الحياة في المدينة، فضلاً أيضاً عن محاولات جرّ الشبّان لاستخدام السلاح في مواجهة القوى الأمنية والعسكرية، وقد ذكرت قوى الأمن في بياناتها أنّها تعرّضت لإلقاء قنابل حربية حقيقية وليس قنابل مولوتوف وإطلاق نار من سلاح حربي.
هو عمل كان الهدف منه، وكما بات واضحاً، استغلال وجع وفقر وحاجة الناس لتحقيق مكاسب سياسية، أو لاستخدام المدينة ومعها لبنان صندوق بريد لبعْث رسائل في اتجاهات متعدّدة، أو حتى لتدمير المدينة من ضمن ما يجري الحديث عنه من تدمير الحواضر المهمّة في المنطقة في سياق التغيير الديمغرافي، خاصة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وفي هذا السياق يذكّر البعض بما جرى لمدينة حلب في سوريا أحد أهم الحواضر السورية، ولمدينة الموصل في العراق أحد أهم الحواضر العراقية، كما يذكّر بأنّ مدينة طرابلس باتت المدينة والحاضرة الوحيدة التي ما زالت صامدة، ويذهب بالقول إلى أنّ ما جرى كان محاولة استهداف حقيقي لها لإضعافها وإسكاتها وإخضاعها.
على كل حال لن يمضي وقت طويل وسيكتشف الطرابلسيون واللبنانيون والعرب والعالم أولئك المندسّين والذين يقفون خلفهم، وسيعرف الجميع النوايا التي حرّكتهم وهذا الفعل القبيح الذي قاموا به محاولين استغلال وجع الناس وحاجتهم في طرابلس وغيرها.
لقد تنبّه الطرابلسيون، قيادات وشخصيات وقوى سياسية ومدنية في المدينة والأهالي الحريصون على مدينتهم، تنبّهوا جميعاً إلى حجم المؤامرة التي تستهدف مدينتهم، وأدركوا أنّ هناك من يحاول استغلال حاجتهم ومعاناتهم، فرفضوا تلك المحاولات ووقفوا إلى جانب بعضهم يتصدّون لها، بمقدار رفضهم للإهمال الرسمي الذي يستهدف ميدنتهم، فصدرت المواقف الجريئة والشجاعة من كل قيادات المدينة وقواها، من تيار المستقبل، وتيار العزم، والجماعة الإسلامية، وهي القوى الرئيسية في المدينة، ومن مفتي المدينة وإمامها، ومن هيئة علماء المسلمين، ومن اتحاد الحقوقيين المسلمين، ومن غيرها من المؤسسات المدنية، ومن نوّاب المدينة ومن شبّانها ومن أهلها الطيبين، من كل أولئك الذين أكّدوا رفض أعمال التخريب، ورفض هدم بنيان الدولة وهيبتها في مدينتهم، لأنّهم أدركوا أنّ ذلك قد يكون لحساب الفوضى التي يمكن أن تتمثّل بما يُطلق عليه "المجموعات الإرهابية" المُستغَّلة من أطراف إقليمية ودولية لحساب تدمير المنطقة بشكل ممنهج.
لقد أكّد كل أولئك رفض استباحة المدينة، والتمسّك بالمؤسسات والدولة ورفض أي منطق تقسيمي، أو أي طرح لعزل الشمال عن بقية الوطن، أو أيّة محاولة للزج بأبناء المدينة والمحافظة في مواجهات لا طائل منها، ولا تخدم سوى مشاريع أولئك المشبوهين في مواقع قرار داخلية أو خارجية. لقد أكد أولئك جميعاً أنهم صامدون وواعون لما يجري وحريصون على قطع الطريق على أيّة محاولة فتنوية، ولكن ذلك يحتاج إلى دعم، ولا يكفي أن يكتفي العالم من الخارج بالتفرّج على ما يجري، وببيانات الشجب والإدانة والاستنكار، أو بالتحذير من مغبات ونتائج الأحداث.
طرابلس وأهالي طرابلس اليوم بحاجة إلى كل الدعم الذي لم توفّره، للأسف، الدولة، ولا أظنّ أنّها ستوفره في قابل الأيام في ظل سلطة فاسدة لا همّ لها سوى التمسّك بالكرسي ومحاولة الاستئثار بالسلطة والإمساك بمفاصلها وكسب مغانمها، وأساساً هذه السلطة هي التي أوصلت الأمور إلى هذه الحالة من البؤس في المدينة وفي البلد، ولا يُرجَى منها خير، بل ربما تكون شريكة كاملة الشراكة، أو يكون بعضها، شريكاً في كل تلك المؤامرة الدنيئة.
طرابلس اليوم وأهلها بحاجة إلى دعم حقيقي يثبّت حضورهم، ويشدّ أزرهم، ويعلي من معنوياتهم ومن منسوب الوعي بحجم الخطر والمؤامرة التي تستهدف مدينتهم، بل والبلد أيضاً، ومشكورة الدولة التركية التي تحرّكت بشكل سريع عبر سفيرها في لبنان، الذي زار رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب في مقر الحكومة، وأبلغه رسمياً استعداد الجمهورية التركية لإصلاح وترميم الأبنية والمؤسسات الرسمية (المحكمة، والسراي، والبلدية..) التي أحرقت في مدينة طرابلس، والوقوف إلى جانب أهالي المدينة في هذه المصيبة.
طرابلس اليوم تئن. طرابلس اليوم تواجه الأخطار المحدقة. طرابلس اليوم مستهدفة، وأهلها يَعُون حقيقة ما يُخطط لها، فلا تتركوها وحيدة تواجه مصيرها لأنها تكاد تكون آخر القلاع الصامدة في شرق المتوسط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.