قبيل ساعات من تتويج جو بايدن رئيساً يحمل الرقم 46 في عمر الولايات المتحدة الأمريكية، كان رئيس التيار الوطني الحر في لبنان، الوزير والصهر جبران باسيل، يُعلن عن ضرورة إعادة هيكلة النظام اللبناني ومناقشة العقد السياسي والاجتماعي وفق رؤى جديدة تتناسب مع ما أنتجته الطبقة الحاكمة المسؤولة عن الانهيار الكبير الحاصل لا محالة، وبعيداً عن شكل ومضمون هذه الدعوة إلا أنها لم تلقَ أذاناً مصغية في الساحة السياسية الموالية والمعارضة، في ظل صمتٍ مريب لحزب الله، والذي يُخفي في سريرته قبولاً ورغبة في الذهاب نحو مؤتمر تأسيسي يلغي اتفاق الطائف، ويعيد رسم لبنان الجديد بصيغة المثالثة وليس المناصفة.
والتي مازال الحزب ينتقم منها كرفض شعوري أن لبنان الكبير عقب رحيل الانتداب الفرنسي تأسَّس بتوافق سني-ماروني، فيما الشيعة كانوا أسرى الأرياف الفقيرة البعيدة عن مراكز القرار، التي خرجت من عنق الزجاجة عقب تولي حافظ الأسد السلطة في سوريا، وظهور موسى الصدر كزعامة شيعية قوية متحالفة مع اليسار الصاعد، على جوانب التاريخ الوسيط لا يبدو في الأفق أن حزب الله جاهز للتنازل في سبيل الحفاظ على شكل الجمهورية الثانية التي جاءت كنتاج سياسي للحرب الأهلية ولتوافق سعودي- سوري حينها، فالحزب إياه يعيش على حلم الإمساك النهائي بمفاصل النظام بدلاً من المناورات والتحالفات الثقيلة والهجينة والمستمدة من حلف الأقليات، فهو يريد القول إنه جزء من الأكثرية السائدة والحاضرة في الشرق الأوسط، وليس كأقلية مذهبية توسعية على حساب الجذور التاريخية للجغرافيا العربية.
رفض مسيحي: التأسيسي يعني الإلغاء
تخشى القوى المسيحية على اختلاف تنوعاتها السياسية طرح باسيل، القاضي بالذهاب نحو مؤتمر تأسيسي يُعيد هيكلة النظام في ظل الواقع الملتهب والتغيرات الجارية في المنطقة، والحديث عن الدفع باتجاه التقسيم، بعد فشل النظام الدولي السابق في تثبيت الاستقرار، وفشل عملية السلام التي أُطلقت في تسعينات القرن الماضي، وعليه فإن الشعور المسيحي اللبناني يعيش خوفاً على المستقبل بعد تكريس الهيمنة الإيرانية على الدول المحيطة، كنظام لا يُشبه شعوب المنطقة، وأسس النظام السابق، تستغرب القوى المسيحية التاريخية من مواقف باسيل، التي تُقدم لحزب الله لبنان الوطن على طبق من ذهب على حساب المكون المسيحي، وتتساءل حول ما إذا كان باسيل صاحب نظرية الخوف من السوري والفلسطيني النازح واللاجئ، وعراب الخطاب الأقلّوي القائم على الكراهية والعنصرية نحو الآخر، يُدرك معنى الحديث عن تغيير للنظام، فيما حزب الله المستقوي بالصواريخ والقمصان السود الأقدر على فرض الأجندة والطرح بكونه يعمل على تغيير النظام بطريقة ناعمة منذ العام 2005، أي لحظة الفراغ التي سبّبها خروج المحتل السوري من لبنان، وغياب الزعامة السنية باغتيال رفيق الحريري، والذي ثبّت المناصفة الوطنية من موقع قوة، تؤكد الأطراف المسيحية مجتمعة أن الطائف هو الحل الأنسب، والحديث عن فشله يصبّ في خانة التهويل، بحيث أن النظام السوري لم يسمح بتطبيقه، واستكمل حزب الله مسار تعطيله عبر خلق الأزمات وفرض الشروط المبتدعة كالثلث المعطل من جهة، والسماح للتيار الوطني الحر بتعطيل البلد والحكومات، كرامة لعيون جبران باسيل وأحلام السيطرة على البلد ومقدراته، تؤكد المكونات المسيحية أن الحل الأمثل يكمن في الدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، تعيد فرز طبقة سياسية جديدة دون الحاجة لتعديلات أو تغييرات جذرية للنظام.
جبهة سنية- درزية: الطائف حصن حصين
بالتوازي، يعيش السنة والدروز هاجس التهميش في ظل التخوف من عقد صفقة أمريكية-إيرانية، تتيح لحزب الله فرض شكل جديد للنظام السياسي، لذا فإن جبهة سنية- درزية قوامها رؤساء الحكومات السابقون، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ووفق المعلومات فإن جنبلاط التقى رؤساء الحكومات السابقين "نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام" في دارة الأخير، وبحسب المعلومات فإن جنبلاط صاحب نظرية أن يعتذر الحريري عن التكليف، وأن يترك "الجمل بما حمل" لحزب الله والرئيس ميشال عون، يؤكد مرجع سياسي من الصف الأول أن الاجتماع أتى عقب تسريب الفيديو للرئيس ميشال عون، الذي اتّهم الرئيس المكلف سعد الحريري بالكذب، وتركزت النقاشات في هذا الاجتماع على إعداد خارطة طريق سياسية، تتمثل محاورها الرئيسية في الحفاظ على اتفاق الطائف وعدم السماح للمسّ به، واحترام الدستور بعد أن بات وجهة نظر في عهد عون وصهره، والعودة إلى مبادئ الشراكة وإعادة التوازنات السياسية بعدما غاب التوازن في ظل حكم عون- نصرالله.
وبحسب المصدر، القطب السياسي، فإن الأكثر تصميماً على فتح مواجهة لحماية النموذج اللبناني القائم على المناصفة هو وليد جنبلاط، الذي يعتقد أن الرئيس عون يستمد قوته من دعم حزب الله، المسؤول عن أزمة لبنان ومقاطعة العالم له منذ العام 2016، وبحسب جنبلاط فإن الكارثة الأبرز كانت في تسوية الرئاسة القائمة على مصادرة المكتسبات لصالح فريق واحد.
فيما يرى الرئيس السابق السنيورة ضرورة فتح معركة سياسية ضد ميشال عون وحزب الله، للحفاظ على اتفاق الطائف، وإسقاط عهد عون، المسؤول الأول عن تدمير البلد وإفقاره.
وبحسب المرجع السياسي فإن الجميع متفق على ضرورة التواصل مع المتضررين من هذا العهد، والعمل على تشكيل جبهة تضم رئيس البرلمان نبيه بري، الذي يرى أن عون يحاول تقويض الدستور عبر طرح نفسه بديلاً عن كل السلطات، وتحديداً السلطة التشريعية، ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية، والرئيس المكلف سعد الحريري، وأن تتقاطع خارطة الطريق مع حزب القوات اللبنانية، بكونها القوة المسيحية الأبرز المعارضة لباسيل، ومن ورائه حزب الله.
فرنسا عينها على الصيغة.. تجديد المبادرة بدعم الفاتيكان
يؤكد السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف أنه في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام المنصرم، التقى أعضاء في الاتحاد الأوروبي في مقر الاتحاد ببروكسل، للبحث في كيفية مواكبة ومتابعة المبادرة الفرنسية في لبنان، بسبب فقدانها الفاعلية حد التعطيل، حيث تباحث المجتمعون في إمكان تبني المبادرة لتصبح أوروبية بالكامل، مع تعيين موفد أوروبي خاص، وهو رئيس الوزراء الإيطالي السابق، رئيس حزب "إيطاليا فيفا" ماتيو رينزي، لكن وبحسب الشريف فإن المقترح الأوروبي اصطدم بعائقين، الأول فرنسي، ويتمثل في رفض مطلق لتحويل المبادرة الفرنسية إلى مبادرة أوروبية.
والثاني، يتعلق بماتيو رينزي، الذي كان ولا يزال يطمح للعب دور أكبر، وعينه تحديداً على تبوء منصب الأمين العام لحلف الناتو.
ويسرد الشريف أنه في الكواليس تم التواصل بين الفاتيكان من جهة وألمانيا وفرنسا وكافة الدول الأوروبية من جهة ثانية، إذ تم الاتفاق على أن تستمر المبادرة الفرنسية، لكن بمسارين هذه المرة:
الأول: التمسك بحكومة الاختصاصيين، وفقاً لمبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون في قصر الصنوبر، ومهمتها تنفيذ الإصلاحات الأساسية في الكهرباء والإدارة وباقي القطاعات (بما فيها إقرار التدقيق الجنائي لحسابات الدولة اللبنانية)، وتتمكن من استجلاب دعم صندوق النقد الدولي كضمانة لاستعادة ثقة المجتمع الدولي بلبنان.
الثاني: إطلاق حوار لبناني- لبناني شامل، يشارك فيه سياسيون وممثلو المجتمع المدني وخبراء ماليون وقانونيون ورجال أعمال وممثلو النقابات، وبحضور نسائي وشبابي يُعتدّ به، على أن تكون وظيفة هذا الحوار محاولة الإجابة عن أسئلة وجودية تتعلق بمستقبل لبنان ودوره الاقتصادي ونموذجه النقدي والمالي، واستقلالية القضاء، ومشاركة المرأة والشباب، والاتفاق على تفسير الدستور، وصولاً إلى نقاش معمّق حول الاستراتيجية الدفاعية التي تُشكل حجر الزاوية في الصراع السياسي المحوري في لبنان.
ووفق الشريف، فإن ما يثير اهتمام الغرب بلبنان عموماً عناوين ثلاثة: اللاجئون؛ التطرف؛ والاستقرار. لكن الفاتيكان، الذي كان قد غطى دعوة البطريركية المارونية، في الخامس من يوليو/تموز، إلى حياد لبنان، ونأى بنفسه عن نيران الإقليم، أضاف إلى العناوين السابقة عنواناً شديد الأهمية بالنسبة إليه، وهو: الوجود المسيحي في الشرق وفي لبنان تحديداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.