من المستحيل أن تستغني الإدارة الأمريكية الجديدة عن ثوابت السياسة الخارجية التي كرستها الإدارات المتعاقبة بغض النظر عن من هو الرئيس، فإضافة إلى إشعال حروب في دول أخرى بتدخل مباشر منها أو بتكليف دول صديقة نيابة عنها بهدف زعزعة الاستقرار في الدول المستهدفة، فإنها لن تتخلى أيضاً عن سلاح العقوبات الذي استخدمه الرئيس ترامب على نطاق واسع، إضافة إلى ازدواجية المعايير في تقييمها للنزاعات الدولية.
أمريكا والصين
تمدنا الوقائع الموضوعية بحقيقة مفادها أن الصين ستكون الهم الأساسي لإدارة الرئيس بايدن بسبب مزاحمتها لأمريكا على تصدر الاقتصاد العالمي، إضافة إلى الخلل الكبير في الميزان التجاري بين البلدين لصالح الصين رغم كل ما اتخذه الرئيس ترامب من عقوبات مبتكرة، حيث ما زالت واردات أمريكا من الصين مرتفعة وما زالت الاستثمارات الصينية في الاقتصاد الأمريكي ملموسة في مجالات عدة ومنها سندات الدين العام الأمريكي وإذا ما لجأت الصين إلى تسييل هذه السندات مثلاً ستزداد الصعوبات أمام محاولات إنعاش الاقتصاد الأمريكي.
ناهيك عن أن اتجاه الصين إلى الاستغناء عن الدولار في معاملاتها التجارية ما سيؤدي حتماً إلى كارثة على أمريكا وسوف يسرع وتيرة انهيار تلك الإمبراطورية.
إضافة إلى كل ذلك فإن النظام الغذائي للصينيين هو بحد ذاته سلاح بيولوجي خطير، حيث إن معظم الفيروسات القاتلة تغزو العالم بسبب المعدة الصينية لذلك ستتعامل الإدارة الأمريكية الجديدة بحذر وحزم في نفس الوقت مع الصين وستعمل إدارة بايدن على خلق توترات في بحر الصين الجنوبي الغني بالثروات، خصوصاً أن الدول المحاذية لذلك البحر باتت تشكل حزاماً معادياً للصين وموالياً لأمريكا وليس مستبعداً أن تجري حروب صغيرة بين تلك الدول من جهة والصين من جهة أخرى في المستقبل القريب بمباركة أمريكية.
وهذه الحروب بالنيابة عن أمريكا من الممكن أن تسهم في إغراق الصين بمشاكل فعلية، إضافة إلى استثمار أمريكا في مشاكل الصين مع الهند وتايوان وقضية الإيغور وغيرها.
أمريكا وروسيا
لن يكون همّ الرئيس بايدن كبيراً مع روسيا لأنه يدرك تماماً أن مبالغة الرئيس بوتين في الترويج لعظمة أسلحته الفرط صوتية أو طائراته من الجيل الخامس تفيده بأن يكون ديكتاتوراً أمام شعبه لكنها لن تؤثر على ميزان القوى العسكري مع أمريكا، لذلك لن تعير إدارة بايدن الاهتمام لهذه الحركات الصبيانية وهي تقرأ جيداً تحالفات بوتين الدولية التي ترتكز بمعظمها إلى تحالفات مع دول فاشلة أو منهارة، ومهما بالغ الروس في التباهي في أهميتها لا شك أنها لا تثير اهتمام الإدارة الأميركية بشكل كبير، بل ما يؤرق إدارة بايدن هو دعم الرئيس الروسي للحركات الفاشية واليمينية المتطرفة في الدول الغربية، خصوصاً بعد أحداث الكابيتول الأخيرة ظهرت القطبة المخفية في العلاقة الإشكالية بين ترامب بوصفه يمينياً متطرفاً وبوتين بوصفه عاشقاً لليمين المتطرف.
والاقتصاد الروسي لا يعتبر اقتصاداً منافساً لأن قوة روسيا الاقتصادية تأتي بعد البرازيل، لذلك لن تكون هناك حرب باردة مع روسيا بل ستتعاون أمريكا معها في حل بعض النزاعات ورسم الخرائط الجديدة، إضافة إلى الضغط عليها في بعض الملفات من أجل إجبارها على أن تكون روسيا المفيدة بشكل دائم.
بايدن والاتحاد الأوروبي
ومهما حاول الرئيس بايدن إصلاح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي من الصعب أن تعود هذه العلاقات إلى سابق عهدها بعد أن تصدعت خلال عهد الرئيس ترامب، وذلك لعدم ثقة الأوروبيين بثبات العلاقات واستقرارها مع أمريكا طالما أن هناك تناوباً على السلطة بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، حيث باتت إهانة أوروبا من الثوابت السياسية للحزب الجمهوري.
بايدن والشرق الأوسط
وماذا عن الشرق الأوسط؟ قيل إن الربيع العربي هدفه كان تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، وبالفعل تحقق مشروع الشرق الأوسط الكبير لكن ليس وفقاً للخطة الأصلية المرسومة.
حيث دخلت تركيا وإيران من الباب العريض إلى التأثير بفاعلية على مجريات الأحداث في المنطقة وانتقل العالم العربي إلى حالة المفعول به بالكامل بعد انهيار النظام العربي، والغريب أن سقوط هذا النظام تزامن مع سقوط ما يسمى "الحكام الديكتاتوريين" في عدة دول عربية على التوالي، كأن اجتماع العرب مع بعضهم لا يكون إلا والسيف حاضر، وبعد هذا الانهيار تنفست الأسر الحاكمة في بعض الدول العربية الصعداء، فلهثت خلف التطبيع المجاني مع إسرائيل ما أدى إلى هدر كرامة العرب بعد انهيار نظامهم المشترك، حيث بات عيباً أن تنعقد قمة عربية جديدة، ومثير للشفقة أن يرضى العرب ببقاء جامعتهم حية.
لقد أثبت الحكام العرب خلال سنوات طويلة أن ثوابتهم تتلخص بالمتاجرة بالقضية الفلسطينية وهدر ثروات العرب، وعلى هذا الأساس واستجابة لرغبات العرب بنت أمريكا ثوابتها السياسية التي تتلخص بحماية إسرائيل حتى بلوغ العصر الألفي السعيد ونهب الثروات العربية وعيون العرب مفتوحة. فماذا ستكون عليه سياسة الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بايدن؟
من المؤكد أن الإدارة الأمريكية الجديدة لن تعمل على إحياء مشروع الشرق الأوسط الكبير ولن تعمل أيضاً على ترميم الشرق الأوسط الصغير، بل سوف تشجع على إنشاء أنظمة إقليمية جديدة منها نظام إقليمي لدول الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وهناك خطوات ملموسة تجري لتحقيق هذا النظام رغم بروز صراعات ومشاكل كثيرة ستعمل الإدارة الأمريكية على تذليلها.
وستضغط الإدارة الأمريكية الجديدة على مصر لتشكيل نظام إقليمي لدول حوض النيل أي ربط مصر بعمقها الإفريقي، وما المصالحة الخليجية الأخيرة إلا خطوة بهذا الاتجاه، خصوصاً بعد انكفاء مصر عن عمقها العربي بعد توقيعها اتفاقية السلام مع إسرائيل في القرن الماضي.
أما السياسة الأمريكية تجاه إيران في عهد بايدن فسيكون هدفها إبعاد إيران عن الحدود الإسرائيلية بالدرجة الأولى لقاء منحها بعض الامتيازات في العراق واليمن بعد إعادة تشكيل تلك الدولتين، إضافة إلى تحفيزها على تعزيز وجودها في القوقاز مع تحفيز تركيا أيضاً، وستحافظ الولايات المتحدة على دور إيران كبعبع في الخليج العربي للاستمرار في ابتزاز السعودية والإمارات.
وستعمل إدارة بايدن على تحسين العلاقة مع تركيا لابتزاز الموقف الروسي في سوريا وتقليم أظافر فرنسا في حوض المتوسط.
أما عن سوريا والعراق ولبنان فإدارة الرئيس بايدن تعرف جيداً أن هذه الدول متواجدة في غرفة العناية الفائقة ولا يمكن نقلها إلى غرفة الإنعاش قبل رسم الخرائط الجديدة المناسبة، حيث بات من الصعب أن تبقى دول موحدة بل ستنشأ على أنقاضها دول فيدرالية أو كونفيدرالية وحتى كيانات جديدة مستقلة.
بايدن وملف القضية الفلسطينية
وأخيراً فلسطين: إن إسرائيل لا تريد حل الدولتين ولا حل الدولة الواحدة بسبب غطرستها اللا متناهية والخدمات الجليلة التي قدمها لها الرئيس ترامب وجل ما يمكن أن تفعله إدارة بايدن هو إعادة تمويل الأونروا التي حجبها عنها الرئيس ترامب وإعادة فتح القنصلية الأمريكية في فلسطين، وسيكون موقفاً متقدماً للرئيس بايدن إذا ما أعادها إلى مكانها الأول في القدس الشرقية، إضافة إلى عدم موافقته على إنشاء مستوطنات إسرائيلية جديدة في الأراضي المحتلة.
ومن المستبعد أن تبادر الإدارة الجديدة إلى إطلاق أية مبادرة سلام قريباً، أما عن سياسة الرئيس بايدن تجاه السعودية فستكون حلقة من حلقات الفيلم الكرتوني توم آند جيري أي مشاكل مشوقة دون دماء أو خسائر. أقول ذلك لأنه من اللافت أن تصدر إشارة من مسؤولة في الإدارة الجديدة إلى ملف خاشقجي دون أية مناسبة علها تقصد من ذلك ترويض ولي العهد السعودي على الولاء للرئيس بايدن بتذكيره بأن راعيه الأول بالفعل غادر البيت الأبيض.
هذه هي الملامح العامة للسياسة الخارجية للرئيس بايدن في الفترة المقبلة، هذا إذا ما استطاع ضبط الإيقاع في أزماته الداخلية ولم تصل الجائحة الاقتصادية العالمية في عهده التي تفوق خطورتها خطورة كورونا بما لا يقارن، وأقصد بذلك انهيار هرم الديون العالمية الذي سيصيب أمريكا بكوارث من الإفلاس والكساد يتجاوز بكثير الكساد الكبير الذي حصل فيها سنة 1929 من القرن الماضي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.