الديمقراطية مصطلح يوناني قديم، ومعناه أن يحكم الشعب بنفسه، كما كان الرجال يجتمعون في ساحة عامة في أثينا، ويقترحون القوانين ويصوتون عليها ويختارون ممثلي الشعب من خلال القرعة لتنفيذ ما تم الاختيار عليه.
ولقد تأسَّست الولايات المتحدة الأمريكية على القيم الديمقراطية الأمريكية، حيث يختار الشعب حكامه بانتخابات نزيهة وشفافة، ويرفل الشعب في أجواء الحريات العامة، وحرية اقتصاد السوق، ومن هذه القيم أيضاً احترام الشعب وتبجيله للآباء المؤسسين لأمريكا والدستور.
وفي الوقت الذي نجد هذه الديمقراطية للشعب الأمريكي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية قد قامت بانقلابات عسكرية كثيرة في بلدان العالم الثالث، لتمكين العسكريين والديكتاتوريين من الحكم منذ أواخر الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين وحتى الآن، حتى تُدار هذه البلدان بخيوط أمريكية من وراء ستار.
الديمقراطية خارج أمريكا
لقد تزعمت الولايات المتحدة الأمريكية تصدير الديمقراطية للعالم منذ أكثر من عقديْن، وإن كان هذا التصدير ينطبق عليه المثل الشهير "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً"؛ فلم نجد أي ديمقراطية مزعومة أسستها أمريكا في العالم، أما الدول التي احتلتها أمريكا فلا تعرف للديمقراطية سبيلاً، مثل أفغانستان، حيث احتلتها أمريكا عام 2001، وكان الجنود الأمريكيون -أصحاب الحضارة المبهرة- يقتلون المواطنين الأفعان ويتبولون على جثثهم!
ولم نجد هذه الديمقراطية الأمريكية بعد احتلالها للعراق عام 2003 سوى في إنشاء سجن الباستيل الجديد (أبو غريب)، حيث يُعذب العراقيون الرافضون لاحتلال أمريكا لبلادهم، وحتى يُغتصبون، ونجد أيضاً قتلاً للعلماء العراقيين وتهجيرهم، غير تدمير الجيش العراقي، ثالث جيش على مستوى العالم في ذلك الوقت، ونهب متاحف العراق بآثارها العتيقة، ونهب موارده، وخاصة البترول، وتسليم العراق لإيران لتعبث به كما تشاء، وبالإضافة إلى تفتيت الشعب العراقي والنفخ في روح الطائفية البغيضة، وتحويل السُّنة إلى أقلية تُقتل وتُطرد في الفلوجة، حيث قُتل أكثر من 3500 مدني وتشريد أكثر من مئتي ألف مواطن، وتدمير حوالي 1500 وحدة سكنية، أما في الموصل، حيث السُّنة أغلبية، كانت ميليشيات الحشد الشعبي تقتل كل كائن متحرك بحجة طرد داعش، وأمريكا ما انفكت -كعادتها- تغض الطرف عما يحدث من مجازر!
وفي مصر وجدنا أوباما يهتف بأن ثورة الشباب في مصر 2011 يجب أن تُدرس للشباب الأمريكي، وفي الوقت ذاته غض الطرف تماماً عن انقلاب السيسي، في 3 يوليو/تموز 2013، على الديمقراطية المصرية، التي نتجت عن ثورة شباب مصر.
أما في فلسطين، فوجدنا أمريكا الديمقراطية مع الكيان الإسرائيلي الديمقراطي والنظام الحاكم في مصر، فعزلوا وحاصروا قطاع غزة منذ فوز واكتساح حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 وحتى الآن، غير غض الطرف تماماً عن مجازر الإسرائيليين في غزة في حروب متعددة، وغض الطرف أيضاً عن بناء المستوطنات في كل الضفة الغربية التي تديرها منظمة التحرير الفلسطينية، بالإضافة إلى رفع الفيتو الأمريكي في وجه كل منْ يدين الكيان الإسرائيلي!
ومع كل جرائم جورج بوش الابن في أفغانستان في 2001، والعراق في 2003، يُعامل في بلده "كرئيس سابق" وليس كمجرم حرب مع صمت الحزب الديمقراطي عن جرائمه وحتى قتله للجنود الأمريكيين في حرب عبارة عن تدمير لبلدين، بحجة محاربة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وتدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك.
الديمقراطية داخل أمريكا
في داخل أمريكا ذاتها نجد الوجه الحقيقي للديمقراطية الأمريكية، حيث نجد التمييز العنصري ضد السود لم يزل قائماً، وليس قتل قوات الأمن الأمريكية لمواطنين أمريكيين سود ومنهم جورج فلويد (1973-2020)، في 25 مايو (أيار) 2020 عنا ببعيد.
جورج فلويد وآخر كلماته: لا أستطيع التنفس أثناء وضع الجنود أقدامهم على صدره.
وحتى قوانين الانتخابات ليست ديمقراطية، إنما فيها حصص للمجمع الانتخابي تطيش وتطيح بالأصوات الشعبية.
والمجمع الانتخابي فكرته سخيفة، لأن رصيد كل ولاية بالمجمع الانتخابي يعكس عدد سكانها، حتى لو كان هذا العدد ضئيلاً، وبالتالي فالولايات ذات الأغلبية البيضاء مثلاً ستصوت لمرشح عنصري يكره السود والملونين وأصحاب الديانات غير المسيحية، وخاصة المسلمين مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (1946)؛ وفي الوقت ذاته، نجد أن الولايات التي بها عدد كبير من غير البشرة البيضاء سيصوتون للمرشح الديمقراطي، أو المرشح غير العنصري، والنتيجة النهائية سيحصدها المجمع الانتخابي الذي سيساوي بين العدد الممثل لكل ولاية بغض النظر عن عدد سكان الولاية، سواء كان كبيراً أو صغيراً، وبالتالي لا نندهش حينما يخسر خمسة مرشحين للرئاسة نتيجة الانتخابات، بالرغم من فوزهم الساحق في التصويت الشعبي بسبب المجمع الانتخابي وهم:
1- أندرو جاكسون (1767-1845) الذي خسر انتخابات عام 1824 وفاز فيها جون كوينيسي آدمز (1767-1848)، بالرغم من حصول الأول على الأغلبية في التصويت الشعبي، ولكنه لم يحصل على الأغلبية المطلوبة في المجمع الانتخابي.
2- وفي عام 1876، فاز المرشح الديمقراطي صامويل جيمس تيلدن (1814-1886) بالأغلبية الشعبية، ولكنه خسر الانتخابات أمام المرشح الجمهوري روثر فورد هايز (1822-1893)، بسبب طعن الأخير في عدة ولايات وفاز بأصوات المجمع الانتخابي.
3- وفي عام 1888، فاز جروفر كليفلاند (1837-1908) بالأصوات الشعبية بفارق 90 ألفاً عن منافسه المرشح الجمهوري بنجامين هاريسون (1833-1901)، ولكن هاريسون فاز بسبب نقاط المجمع الانتخابي.
4- وفي انتخابات عام 2000، فاز المرشح الجمهوري أل جور (ألبرت أرنولد آل جور الابن) (1948) في التصويت الشعبي، بزيادة نصف مليون عن المرشح الجمهوري جورج بوش الابن (1946)، ولم يحقق كلاهما الأغلبية في المجمع الانتخابي، وحدث جدل كبير بخصوص ولاية فلوريدا، وحسمت المحكمة العليا الأمر، ورجحت فوز جورج بوش الابن، وذهب نصف المليون صوت لأل جور أدراج الرياح.
5- وفي عام 2016، خسرت هيلاري كلينتون (1947) أمام دونالد ترامب بسبب أصوات المجمع الانتخابي، رغم زيادة الأصوات الانتخابية الشعبية لها عن الأخير بأكثر من 3 ملايين صوت.
الانتخابات الأخيرة
وتتجلى الديمقراطية الأمريكية المزعومة في الأحداث الأخيرة في مبنى الكونغرس؛ فقبل مغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض هتف: سيكون يوم 6 يناير/كانون الثاني يوم الحسم، وهذا ما يفسر لنا اقتحام أنصاره لمبنى الكونغرس، في يوم الأربعاء 6 يناير/كانون الثاني الماضي، وهم ما برحوا يهتفون شعارات "أوقفوا السرقة" و"هراء"، وحدثت زوبعة وقُتل أربعة أفراد، وكل هذا بسبب نتيجة الانتخابات التي خسرها ترامب أمام جو بايدن (جوزيف روبينيت بايدن الابن) (1942) المرشح الديمقراطي.
ولقد قال رودي جولياني (1944)، محامي ترامب، والذي يرفض نتيجة الانتخابات: يجب حل الخلافات الانتخابية في ميدان المعركة!
الرئيس الأمريكي جو بايدن
إن الانتخابات الأخيرة بين جو بايدن ودونالد ترامب أحدثت انقساماً في الشعب الأمريكي، وأوضحت عدم مصداقية هذه الانتخابات، وسلطت الأضواء الكاشفة على أكذوبة الديمقراطية الأمريكية.
المراجع:
لعبة الديمقراطية أمريكا نموذجا
المدن السنية العراقية والاستراتيجية الأمريكية
في تاريخ أمريكا: 5 مرشحين فازوا بالانتخابات وخسروا أصوات الشعب
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.