كان صوت المرأة في الشعر حاضراً بقوة في الحضارة العربية الإسلامية حتى وإن كانت المدوّنة التاريخية لم تنصفها واكتفت بذكر بعض الأسماء الشهيرة واختزلت مسيرة مئات النساء الشاعرات لصالح الشعراء الرجال.
لكن بالعودة إلى صفحات التاريخ المنسية، ورغم محاولات الإهمال والطمس سنجد أنّ المرأة قد تفوقت في مجالات الفكر والأدب، ولم تكن مجرّد وعاء جنسي كما يصوّر له البعض، بل بمجرّد امتلاكها سلاح المعرفة قد حررها من الاستعباد والتمييز الجنسي.
ذكرت بعض المصادر فطنة وفصاحة بعض النساء في ردّهن على بعض الملوك أو القادة، ردود ذكرها التاريخ ودونت بكلّ سلاسة ذكاء النساء العربيات فتمّ إنصافهن في مجال الأدب كفاعلات والذي كان حكراً على الرجال أو هكذا كما روّج له.
لن نتحدث في نصّ هذا المقال عن الشاعرات العربيات الشهيرات، بل عن الشاعرات المغمورات، سنتحدث عن الإماء الشاعرات رغم محاولات طمسهن من المدوّنة العربية، يذكر كتاب "الدولة العباسية، مراحل تاريخها وحضارتها" أن عدد الجواري الشواعر قد فاق عدد الحرائر الشواعر، ويُرجع الكتاب غلبة الإماء على الحرائر في مجال الشعر "إلى التنافس بين النخاسين حول صقل أذهان الجواري وتعليمهن صنوف الآداب والفنّ، حتى يكتمل الجمال مع الفن".
ببادرة من الوزير الحسن بن محمد بن هارون والمعروف بالوزير المهلبي (291 هـ -352هـ) كلف أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني، وهو أحد أشهر علماء القرن الرابع الهجري، في توثيق أشعار بعض الإماء المماليك والذي ذكرهن في كتابه "الإماء الشواعر" والذي يعتبر من بين الكتب القلائل الذي تطّرق إلى مسيرة النساء في الحضارة العربية الإسلامية.
فضـل.. فخر الحرملك العباسي
من أطرف الحكايات التي ذكرت عن الإماء الشواعر حكاية "فضل" الشاعرة اليمامية، جارية المتوكل.
تضاربت الروايات حول أصولها فهناك من نسبها إلى اليمامة، وهناك من نسبها إلى البصرة، أهديت إلى المتوكل فحظيت بمكانة كبيرة في مجلسه وتذكر المصادر التاريخية حسنها وجمالها وفطنتها وفصاحتها التي جذبت الأنظار حولها، وقيل إنها من أشهر جواري المتوكل رغم أن عدد جواريه قد بلغ أربعة آلاف جارية.
يقال إنها كانت تحضر مجلس الخليفة وتقارض الشعراء، وقد ذكرت سيرتها في كتاب الأغاني بكونها "من أحسن الناس وجهاً وخلقاً وأرّقهم شعراً"، هذا بالإضافة إلى سرعة البديهة فقد كانت تجيب الشعراء ببلاغة، ومن أشهر المواقف التي ذكرتها المصادر التاريخية، حكايتها مع الشاعر أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي الذي أنشد في مجلس الخليفة المتوكل وبحضور الشاعرة "فضل" هذه الأبيات:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم
أشهى المطيّ إليّ ما لم يركب
كم من حبّة لؤلؤ مثقوبة
لبست وحبّة لؤلؤ لم تثقب
فأجابته فضل ردّاً ظلّ حديث الخاصة والعامة:
إنّ المطيّة لا يلذّ ركوبها
ما لم تذلل بالزمام وتركب
والدرّ ليس بنافع أربابه
حتى يؤلف للنظام بمثقب
ونافست الجارية محبوبة الجارية فضل في الشهرة، وهي أيضاً مملوكة للمتوكل، ويذكر أنها حسنة الوجه والغناء، ومن بين المواقف التي حفظها التاريخ لمحبوبة مع سيّدها المتوكل أنها كانت في موضع خصام معه، فرأى المتوكل في المنام جاريته محبوبة وقد صالحته، فأرسل خادماً يتفقد أخبارها فبلغه أنها تغني فغضب المتوكل وقام إلى حجرتها فوجدها تنشد هذه الأبيات:
أدور في القصر لا أرى أحدا
أشكو إليه ولا يكلمني
حتى كأني ركبت معصية
ليست لها توبة تخلصني
فنالت بهذه الأبيات رضى واستحسان المتوكل الذي صالحها على الفور.
نجحت فضل ومحبوبة وغيرهما في تحويل الأضواء إليهن والحديث عن الفصاحة التي تميّزت بها النساء في ذلك العصر وعالم يطغى عليه الحضور الذكوري وهو مجال الشعر، وهو ما يؤكد صحة الأطروحة القائلة إن "المعرفة تحرر الإنسان"، وفي الحضارة الأندلسية سطع نجم جوارٍ كثيرات نجحن في أن يدخلن عوالم الحكم والسياسة والشعر وأن ينجبن الحكام في ذلك العصر، وقد حظيت اعتماد الرميكية بنصيب واسع في المصادر التاريخية بعد أن هام بها المعتمد بن عبّاد حاكم إشبيلية.
وقد سطع نجم بعض الإماء الشواعر في الحضارة الأندلسية فكان حضورهن كبيراً في بلاط السلاطين ويرجع إشعاعهن إلى تحرر المجتمع الأندلسي والذي أثر بشكل مباشر على الحراك الأدبي.
متعة.. شاعرة جريئة في العصر الأندلسي
تميّزت متعة جارية زرياب بحُسن جمالها وفصاحتها وقد علمها سيّدها الغناء، ويذكر كتاب "نفح الطيب" للشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني: "وكان لزرياب جارية اسمها متعة، أدبها وعلمها أحسن أغانيه حتى شبّت وكانت رائعة الجمال".
كما تميّزت متعة بفصاحتها وقرضها للشعر، ويقال في أكثر من مصدر تاريخي إنها حضرت مجلس الأمير عبد الرحمن بن الحكم والذي أعجب بها كما أعجبت به ولكنه لم يعبّر عن مكنونات نفسه فأنشدته قائلة:
يا من يغطي هواه
من ذا يغطي النهارا
قد كنت أملك قلبي
حتى علقت فطارا
بلغت هذه الحادثة مسامع زرياب فأهداها إلى الأمير، علماً بأن الشاعرة الأندلسية تميّزت بالجرأة والشجاعة بشكل عام في التعبير عن مشاعرها سواء كانت من الحرائر أو الإماء.
وفي نفس المصدر السابق، أي في كتاب "نفح الطيب"، ذكر الشيخ المقرّي أن البلاغة صارت من شيم أهل الأندلس لا سيما النساء، وذلك في قوله: "فقد رأيت أن أذكر جملة من نساء الأندلس اللاتي لهن اليد الطولى في البلاغة كي يعلم أن البراعة في أهل الأندلس كالغريزة لهم حتى في نسائهم وصبيانهم".
ومن الإماء الشواعر في العصر الأندلسي الجارية العجفاء، التي اشتهرت بحسن الغناء والعزف على العود، وعُرفت أيضاً قمر جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي، صاحب إشبيلية وقد جمعت بين الفصاحة والغناء، وقد ذُكرتا في عدة مصادر تاريخية.
إن امتلكت المرأة سلاح المعرفة فإنها تتحرر، هذه ليست مقولة نسوية ولكنها حقيقة أثبتها التاريخ في العصور الماضية، فكثير من الإماء والجواري حظين بمكانة خاصة، وذلك لحسن معرفتهن وبلاغتهن، فكان استعبادهن مخففاً عن بقية الجواري، وهناك من استطاعت الدخول إلى القصر حاكمة وأم الخلفاء، واليوم امتلاك النساء المعرفة سيمكنهن من مواجهة الاستعباد الثقافي والاقتصادي، والأهم التحرر من الجهل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.