تشكل الفلسفة الرواقية بوصفها حكمة عملية في فن العيش السعيد أحد المنابع الأساسية لما يعرف اليوم داخل حقل السيكولوجيا بعلم النفس الإيجابي، وعلم النفس المعرفي، والعلاج المعرفي السلوكي بما هو أداة عملية للعلمين السابقين في الوقاية من الاضطرابات النفسية وعلاجها.
ومع إدراكنا لما قد يكون ثاوياً في هذه الفلسفة من أبعاد أيديولوجية واعية أم غير واعية، تتطلب استحضار الشرط التاريخي، بمكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومع إدراكنا أيضاً أن هذه الأبعاد الأيديولوجية قد تكون أكثر سفوراً في حالة علم النفس المعاصر، ما لم تُلَقَّح مقاربته بمقتربات سوسيولوجية واقتصادية وسياسية ذات نَفَس نقدي، فإننا سنصرف النظر في هذه المقالة عن الوقوف عند حدود المنظور الرواقي مركزين بتكثيف شديد على مضمون أطروحته، ومدى راهنية هذه الأطروحة في الزمن المعاصر.
ترى المدرسة الرواقية (زينون، سينيكا، إبكتيتوس، ماركوس أوريليوس، بوثيوس….) في فلسفتها العملية، أن الواقع ليس هو العائق أمام سعادتنا، وإنما التصورات التي نكونها عنه، ومصدر الشقاء ليس الواقع الخارجي، بل كامن في طريقة تفكيرنا فيما يحدث لنا، يقول ابكتيتوس في مختصره enrichidion عن الغضب: "إذا قام أحد بإغضابك فاعلم أن حكمك الخاص هو المسؤول عن غضبك". وفي حالة المرض قد يصاب شخصان بالمرض العضال نفسه، لكن رَدَّتيْ فعلهما تكونان مختلفة، باختلاف طبائعهما، ومدى قدرتهما على ضبط انفعالاتهما، وتوجيهها وجهة إيجابية أو سلبية.
فإذا كانت الوجهة ايجابية كان في ذلك خير لي ولغيري، مادامت الانفعالات معدية بتعبير فريديريك لونوار، وإذا صارت نحو مسار سلبي ففي ذلك وبال علي وعلى غيري، وقد يترتب عنها سلوك ضار بالغير، مِن منظور المذهب الرواقي العالَم طَيِّب جميل متناغم، وكل ما يحدث فيه، يحدث لخير الجميع، حتى لو لم نكن على وعي بذلك، لأننا عادة ما نختصر الحدث في الشر الظاهر، مع أن الشر من جهة ما هو خير ما، كما سيقول طوما الأكويني فيما بعد، وهو القول الذي يشي مع مقولات أخرى بأثر الرواقية في المسيحية.
تؤكد الفلسفة الرواقية أن الظروف السيئة التي نمر بها، لا ينبغي أن توقعنا في أفكار سيئة قد تدمرنا وتُعجل هلاكنا، فنقع في عكس الغاية من خوفنا – أي غاية حب البقاء على أفضل وجه- بل علينا أن نرى في هذه الوضعيات السيئة ظروفاً مناسبة لنمو وتقوية شخصيتنا، يَنتج عن هذا التصور أن السعادة تكمن في قبول ما هو كائن. وبتعبير بسينيكا "فإن ما نعجز عن إصلاحه من الأفضل تحمله" (قبول القَدر). يُقدم إبكتيتوس في مطارحاته discourses عن هذا المبدأ المثال التالي: لنتخيل كَلْبا مربوطاً إلى عربة، إذا حاول هذا الحيوان المقاومة فإن العربة مع ذلك ستجرفه معها، وسيعاني فوق ذلك لأنه حاول اجتناب ما لا يمكن اجتنابه، بينما لو سايرها فبإمكانه أن يُكَيف سرعته معها، وقد يصل إلى هدفه بالمسايرة لا بالمقاومة.
إذا كُنتَ مُمثلاً وفُرِض عليك أداء دور ما، فهذا مما لا يمكن اجتنابه، لكنك تظل حراً في طريقة أدائك للدور سواء كنت بارعاً أم لا، إن وصية ابكتيتوس هي كالآتي: "لا تنتظر حصول الأحداث كما تتمنى، لكن رِدْ ما وقع وستكون سعيداً".
إن مصدر شقائنا الأكبر حسب الرواقيين هو رغباتنا التي لا تنتهي، وخاصة إذا كانت إمكاناتنا وقدراتنا عاجزة عن تحقيق ومسايرة هذه الرغبات، وحسب سينيكا فإن النصيب الأكبر من غضبنا يعود إلى آمالنا الكبيرة التي تنسينا عيش الحاضر والاستمتاع بلحظاته. لذلك يستبدل الرواقيون الرغبة بالإرادة المحكومة بالعقل (اللوغوس)، والتي تُحَول رغباتنا العمياء إلى حركات إرادية مفكر فيها، وإلى آمال متواضعة محدودة بحدود استطاعتنا.
يُعتبر عَيْش الحاضر أحد المبادئ الهامة لهذه المدرسة الفلسفية، ومقتضى هذا المبدأ هو: أن نتجنب الهرب إلى ماض مُنْتَه، أو الفرار نحو مستقبل غامض غير مضمون. يعبر سينيكا عن هذا المعنى في كتابه الأشهر رسالة إلى لوسيليوس بقوله: "من فرط العيش في الماضي، أو في المستقبل تعوزنا الحياة. وقد تنقضي الحياة، ونحن ننتظر أن نعيش. فما أشد حماقة الإنسان الذي يتأهب دائماً للحياة".
كما تعتبر الرواقية الخوف أشد الانفعالات ضرراً على الإنسان، فالخوف سواء كان لسبب حقيقي أو مجرد خوف وهمي أسبابه غير حقيقية ولا واقعية، هو عدو الحكمة لأنه يحولنا إلى أغبياء أو خبثاء كما يقول بوثيوس في كتابه عزاء الفلسفة. لذلك تقتضي الحكمة الرواقية تعويد النفس على توقع حدوث أمور سيئة مثل المرض، والموت، وفقدان الأحبة، شرط ألا يُفْضي هذا التعود إلى التعاسة قبل حلول الأزمة، وعند حدوثها. تقول رسالة سينيكا في هذا الشأن: "من المرجح أن تَحُل علينا بعض الأزمات، ولكنها ليست واقعة الآن، فَكَم مرة حدث ما هو غير متوقع، وكم مَرَّ المتوقع دون أن يحدث. ورغم كونه مُقَرّرَ الحدوث، فَلِم نعاني من أجله مسبقاً؟ سوف نعاني بالقدر الكافي عندما يصل" .
بل إن توقع الموت، والتكيف مع فكرة أننا وُجِدنا لننتهي، وأن ولادتنا هو بداية سيرنا نحو الموت، يُعتبر في الفلسفة الرواقية بمنزلة مُنَبه للحياة، معه ندرك قيمة كل لحظة نعيشها، وبالإمكان أن تكون اللحظة الأخيرة لدينا. لذا علينا أن نتوقف عن إضاعة وقتنا، وطاقتنا في أشياء تافهة.
إننا ونحن نعيش اليوم إيقاعاً استثنائياً في حياة الأفراد والمجتمعات والدول، بل والكوكب بأكمله، فرضه عدو غير مرئي، ولا متوقع، لنا أن نستفيد من هذه الحكمة الرواقية. حكمة إخضاع الانفعالات لإرادة العقل. فما دام فيروس كورونا لم يصبك فما الداعي إلى الخوف؟ وقد يصيبك وتنجح في التغلب عليه دون أن تشعر؟ وقد يصيبك وتعيش معاناة الإصابة لكن ليس بالحدة التي توقعت؟ فلماذا نموت قبل الموت؟ وبتعبير مجازي جميل عميق لأحد الروائيين الأمريكيين مستمد من روح الرواقية يقول: لماذا نهرع إلى منفذ الخروج قبل أن يحين موعد إغلاق الأبواب؟
نحن نعلم اليوم أن الخوف كلما زادت حدته ضعف جهازنا المناعي، فنسقط في فخ ما كنا نود الهروب منه. قد يكون هذا المعطى مما فات الرواقيين لمحدودية المعارف العلمية في عصرهم. لكن ما يفوت أكثرنا اليوم هو ما أدركه الرواقيون قبل أكثر من 2000 سنة، وهو أن خوفك قد يكون أشد فتكاً بك من الخطر الخارجي نفسه، وأن أفضل حليف لهذا العدو الخارجي هو الخوف النابع من داخلك. وهذا لا يتناقض طبعاً مع دور العقل في الأخذ بأسباب الوقاية، فذلك من مقتضيات المذهب الرواقي والقاضية بجعل تصرفاتنا بمثابة حركات إرادية مفكر فيها كما أسلفنا، إن قيمة الفكرة السالفة تبدو جلية اليوم، لما لاحظناه من ردود أفعال في التعامل مع هذا العدو غير المرئي، تراوحت في أحيان كثيرة بين الهلع الشديد أو الاستهتار الشديد.
والله وحده أعلم، كم سبّب الهلع، بعد ظهور وانتشار الوباء من مضاعفات نفسية أو جسدية، أو هما معاً، ربما كانت أسوأ من الضرر الذي كان من الممكن أن تخلفه الإصابة بالفيروس ذاته، وفي المقابل كيف أفضت السخرية المَلْهاة من الفيروس -وهي السخرية التي لا تخلو أحياناً من تذاكٍ، أو تظاهر بذلك النوع من الشجاعة المُعَبّر في حقيقته عن الجبن وضعف الثقة بالنفس- إلى نهايات مأساوية لبعض المندفعين الذين لم يفصلوا بخيط دقيق بين الشجاعة والتهور، وهو ما يعني من الزاوية الرواقية فشلاً في إخضاع تصرفاتهم لمبدأ الإرادة المفكرة (اللوغوس).
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.