تشهد منطقة الخليج تصعيداً عسكرياً كبيراً هذه الأيام بين الولايات المتحدة من جهة وإيران من الجهة الأخرى، حيث قامت الولايات المتحدة في الأيام القليلة الماضية، بنشر قِطع بحرية وأرسلت عدداً من قاذفات B-52 الاستراتيجية إلى المنطقة.
كما استعرضت إيران صواريخها الباليستية وقوتها العسكرية في سواحلها الجنوبية الغربية المقابلة لدول الخليج العربية، نهاية الأسبوع الماضي، بحضور قائد الحرس الثوري. ويوازي التحركات العسكرية من الطرفين أيضاً تصعيد سياسي من الطرفين في شكل تغريدات وتصريحات تشير إلى نية توجيه ضربة عسكرية أمريكية "محدودة ورادعة في الوقت نفسه" لمنشآت عسكرية أو نووية إيرانية، كما تشير التحركات الإيرانية الى رغبة إيرانية في القيام بعمل انتقامي في الذكري السنوية لاغتيال قاسم سليماني بضربة جوية أمريكية.
شواهد التصعيد العسكري بدأت باغتيال العالم الفيزيائي الإيراني محسن فخري زاده، في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تلاه إطلاق صواريخ على محيط السفارة الأمريكية في بغداد أشارت فيه إصابع الاتهام الى ميليشيات عراقية تتبع طهران. كما سرّبت إدارة ترامب معلومات إلى وسائل إعلام أمريكية بشأن مناقشة الفريق الأمني للإدارة سيناريوهات وخيارات توجيه ضربة إلى إيران، بحضور الرئيس ترامب.
وقامت إيران، الأسبوع الماضي، باحتجاز ناقلة نفط مملوكة لشركة كورية جنوبية أبحرت من ميناء الجبيل في السعودية، بحجّة تلويثها للبيئة، الأمر الذي حدا بكوريا الجنوبية إلى الإعلان عن إرسالها وحدة عسكرية بحرية لمكافحة القرصنة إلى مياه الخليج. ومن المعلوم للجميع أن سيول حليف قديم لواشنطن وهناك تنسيق عسكري وسياسي كبير بين الجانبين.
الملاحظة الأولى على زيادة احتمال حدوث مناوشات هو أن الرئيس ترامب، الذي يشعر بيأس وصدمة بالغتين بسبب خسارته للانتخابات، يريد قلب الطاولة على رؤوس الجميع بإشعال حرب يضغط بها على الجميع ليمدّد فترته الرئاسية بذريعة الحرب.
وتصريحاته قبل أربع سنوات والتي اتهم فيها سلفه أوباما بالسعي لشن حرب في العراق ليؤخر تسليمه للسلطة، تشير إلى طريقة تفكير الرجل. و"العامل" الإسرائيلي أيضاً يلعب دوراً كبيراً في التصعيد كطرف ثالث مؤثر.
والملاحظ في هذا الجانب أن غالبية الحروب الإسرائيلية القصيرة التي بدأتها إسرائيل في العقدين الأخيرين، كانت في الفترة التي تسبق تسليم السلطة من رئيس أمريكي منتهية فترته إلى رئيس منتخب، أو انتهاء فترة رئاسية للرئيس الأمريكي يكون فيها مشغولاً وموقفه ضعيف أمام اللوبيات الصهيونية. ويبدو أن اغتيال العالم الإيراني كان محاولة إسرائيلية، بمباركة من ترامب، لصبّ الزيت على نار الخليج الملتهبة أصلاً.
الملاحظ في الخلافات الأمريكية – الإيرانية استخدام الوكلاء في المنطقة، وهو أمر يعود لعدم رغبة الطرفين في الدخول بحرب مباشرة وتقليدية تكون نتائجها كارثية للطرفين. وبالنسبة لإيران فإن الفصائل الشيعية في العراق هي الوكيل الأول لها بالمنطقة حالياً، يليها حلفاؤها في لبنان واليمن وسوريا وحتى أفغانستان.
وقد كانت إيران بارعة في استخدام هؤلاء الوكلاء بحروبها التي تتجنب خوضها. وهو أمر يقلّل من التكلفة الاقتصادية والعسكرية والسياسية مقارنة بالدخول في حرب مباشرة. وإيران أكثر من يعلم ذلك بناءً على تجربتها في حرب الثماني سنوات ضد عراق صدام، والتي خلّفت ضحايا بمئات الآلاف ودماراً كبيراً للمدن والبنية التحتية المدنية والعسكرية.
المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف رجّح أن يكون العراق ساحة المعركة الرئيسية، قائلاً إن "احتمال حدوث هجمات مجهولة على أهداف في السعودية يزداد بشكل واضح. كما يزداد أيضاً احتمال وقوع الهجمات المجهولة نفسها على أهداف إيرانية انطلاقاً من أراضي العراق نفسه، ولكن على خلفية الحظر النفطي المفروض على إيران، فإنَّ ثقل الخسائر من هذه الهجمات المحتملة لإيران أقل بكثير من ثقل خسائر هجمات مماثلة على دول الخليج.
سوف تكون هناك حرب طائرات من دون طيار، وحرب أعصاب، سيحاول فيها كلا الجانبين إلحاق أكبر قدر من الضرر بالعدو عن طريق هجمات مجهولة؛ حتى لا تتسبب في حرب مباشرة".
لكن على الجانب الآخر ينفى خبراء عسكريون وسياسيون من الطرفين سعي البلدين لشن حرب في هذه المرحلة. فالمسؤول السابق بوزارة الدفاع الأمريكية مايكل روبين، استبعد في حديث له مع قناة "الجزيرة"، سيناريو التصعيد العسكري من جانب واشنطن، مؤكداً أنه لا يتوقع تصعيداً خطيراً من إدارة ترامب في الأسابيع القليلة المتبقية لها.
وأضاف روبين أنه "لا يمكن حدوث ذلك لعدة أسباب؛ أولها أن فكرة السعي إلى شن حرب مع إيران مبعثها جماعات يسارية تقدمية أمريكية، أو جماعات ضغط. والثاني أن البنتاغون له رأي كبير في القضية، على الرغم من أن الرئيس ترامب هو القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ وأن العسكريين يرون أنه يجب أن يكون هناك ترتيب ربما يستغرق أياماً أو أسابيع أو أشهراً لأي هجمات على إيران، بجانب رفض الكونغرس المؤكد لمثل هذا السيناريو".
والسبب الثالث برأي روبين، هو شخصية ترامب التي تميل إلى سياسة الضغوط القصوى للخروج بمكاسب، وتتجنب الدخول في حروب مكلفة. ويرى روبين أن ترامب هو الرئيس الأمريكي الوحيد (باستثناء ريغان) الذي لم يدخل في حرب أثناء فترته الرئاسية.
ومن الجانب الإيراني ربما يكون الردُّ الإيراني على اغتيال قاسم سليماني في شكل تفجيرات أو هجمات تستهدف القوات الأمريكية في العراق أو دول الخليج. ولا تملك الولايات المتحدة- من الناحية العملياتية- ضمانات كافية لحماية أرواح جنودها وقِطعها البحرية وقواعدها العسكرية، إلا التلويح بالردّ العسكري بضرب أهداف في العمق الإيراني.
سيكون الردّ الأمريكي وردّ الفعل الإيراني غير المعروف مخاطرة غير محسوبة النتائج. والعسكريون والسياسيون يعرفون جيداً أن من يبدأ الحرب يملك قرار شن الحرب، لكنه قطعاً لا يملك قرار أو توقيت إنهائها. وغالباً ما يحاول كلا الطرفين إخافة وخداع الطرف الآخر، ولكن في الهجمات الحقيقية سوف يحسب كل طرفٍ رد فعل العدو بكل دقة.
في الوقت نفسه ستصبح إيران أكثر تصميماً وستزيد من أسهمها في اللعبة مع تفاقم وضعها الاقتصادي وقدرتها على ردع أعدائها من تنفيذ اغتيالات وهجمات على منشآتها النووية. هنا بالطبع قد يؤدي أي حادث غير محسوب إلى التصعيد، إلا أنه وبشكل عام، سوف تكون حرب الكلمات أكثر ضراوة من حرب الأفعال. وهنا يبرز الطرف الإسرائيلي كعنصر قد يسهم في تصعيد الوضع. فرغم التنسيق السياسي والأمني والعسكري المعروف بين واشنطن وتل أبيب، فإن لكل طرف حساباته السياسية والعسكرية الخاصة به.
خلاصة القول، إن الطرفين لا يرغبان في الدخول بمعركة مكلّفة، لكن كل طرف يرغب في ردع الآخر عن شن هجمات أو اغتيالات ضده. وقد مثلت حادثة اغتيال قاسم سليماني ضربة موجعة لإيران سيكون عدم الانتقام لها مشكلة بالنسبة للنخبة الحاكمة في طهران. بينما تريد إدارة ترامب إرضاء ناخبيها وحليفتها إسرائيل عن طريق الضغط الاقتصادي والعسكري على إيران.
والأخبار القادمة من واشنطن بتحييد ترامب بعد الاحتجاجات الكارثية التي قام بها مؤيدوه في مبنى الكونغرس الأسبوع الماضي، أخبار جيدة لإيران وللمنطقة التي لا ترغب في الدخول بمغامرة غير محسوبة في مثل هذا التوقيت الحرج.
ويبدو أن القادة العسكريين سيصبحون أكثر قدرة على معارضة ترامب بعد معركته الأخيرة الأسبوع الماضي. كما أن الجناح المعتدل في إيران، والذي يمثّله الرئيس روحاني ووزير خارجيته ظريف، يستعد لاستقبال فترة جو بايدن الرئاسية من دون تصعيد يؤدي إلى مصاعب جديدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.