لطالما اعتدنا على رؤية الشرق الأوسط ضمن مشاهد الحروب التي لا تنتهي، والصراعات والحروب الداخلية، والاحتلال والانقلابات العسكرية، والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان، فضلاً عن السجن والتعذيب.
جرّبوا أن تشاهدوا تلك المشاهد التي عرضتها شاشات التلفاز طيلة العشر سنوات الماضية، حول ما عاشته سواء سوريا أو العراق أو فلسطين أو اليمن أو السعودية ومصر وليبيا وتركيا، جرّبوا ذلك وستكتشفون أن معظم القنوات تعرض أخباراً ولقاءات ومشاهد تتناول تلك المسائل. ولطالما كان أحد أصدقائي يركز على هذه المفارقة، ويقول "جرّب أن تشاهد الصورة التي تتشكل ممّا تعرضه الشاشات عن هذه البلدان. وفي الوقت ذاته جرّب أن ترى ما تعرضه الشاشات عن الحياة السياسية أو الاجتماعية اليومية في الولايات المتحدة وأوروبا، لن تجد عندهم مشاهد الدم والقتل والعنف، لن تجد أحداثاً يمكن أن تساهم بمادة إخبارية من ذلك النوع، حيث إن الأحداث التي يمكن أن تشكل قيمة للخبر ستكون حول ألعاب الغولف وربما التنس".
لا شك أن صديقي حينما يقارن بين المشهدين، أنه يتجاهل أن استمرارية مشاهد الحياة المزدهرة هنالك مرتبطة باستمرار البؤس والشقاء عندنا.
فوضى الولايات المتحدة الخلّاقة
ودعونا نسأل هل هناك أحد لا يعلم أن الولايات المتحدة من أجل الحفاظ على ازدهارها الاقتصادي، تفرض بشكل مستمر نظام فوضى "خلّاقة" وأحياناً "مستدامة" سواء في الشرق الأوسط؟
هل يمكن أن تكون الصراعات والاقتتال وانعدام الاستقرار في هذه البقعة، نتيجة نابعة عن إرادة أبناء منطقتنا أو مزاجنا الحاد وخلافاتهم فحسب؟ وإن كان الأمر كذلك لماذا انتظرت تلك الأقوام التي عاشت معاً طيلة قرون؛ هذه اللحظات والأيام حتى تدخل في صراعات عميقة؟
نعم لا شك أن هذه الصورة أو المشهد هما في النهاية نتيجة الطريقة التي تُدير بها الولايات المتحدة وأوروبا الشرق الأوسط. أما التفكير بأنّ الولايات المتحدة تحاول تصدير الديمقراطية للشرق الأوسط أو للعالم كله، فما هو إلا مغالطة ومزحة لم تعد مضحكة. فالولايات المتحدة نفسها لا تؤمن بتلك الأسطورة. بل على العكس، إننا نرى أن كل ما تفعله الولايات المتحدة تحت هذه الذريعة إنما يصب في محاولة إعاقة أي إمكانية للتطور الديمقراطي، حيث إنه من الصعب جدّاً على الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي حكم البلدان الديمقراطية.
أسأل صديقي الذي طالما يعقد مقارنات بين المشهدين، عن رأيه وإحساسه في الآونة الأخيرة، لا سيما في عهد ترامب، حيث وصلت الأحداث هناك إلى مستوى بالتأكيد ليس أفضل مما جرى أو يجري في أي دولة شرق أوسطية. فالأحداث التي تجري تشير بشكل مستمر إلى مدى قصر المسافة بين الديمقراطية والاستبداد، فضلاً عن تدمير قيم الديمقراطية يوماً بعد يوم، في بلد يعتبر مهداً للديمقراطية.
وختام المشهد تجسد في مداهمة مقر الكونغرس الأمريكي في العاصمة واشنطن، بينما كان أعضاء الكونغرس يستعدون للتصديق على نتائج الانتخابات التي فاز بها المرشح الديمقراطي جو بايدن، حيث رفض الرئيس الحالي دونالد ترامب الاعتراف بالنتائج واعتبرها مزورة وغير صحيحة. فكانت أحداثاً لم تعرفها الولايات المتحدة من قبل، ومن غير المعروف فيما لو كانت ستتكرر، إلا أنّ تلك الأحداث تظل علامة مهمة على انقسام حقيقي يحدث في أعماق المجتمع الأمريكي.
ومن الواضح أيضاً أنّ ما جرى من أحداث لا يمكن اختزاله بالسمات الشخصية لترامب فحسب، أو بمجرد شخصيته الاستثنائية التي لم تتمكن من تقبل نتائج فرضتها الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية. بل إنّ اندفاع الجماهير لتنفيذ ذلك المخطط العنيف بعد كلمة واحدة من ترامب، يشير بشكل أكبر إلى انكسار وانفصال في أعماق المجتمع الأمريكي.
كان الحكم الاستباقي الأول حول ترامب هو أنه من خلال شخصيته الاستثنائية وسلوكه الذي يجعل التنبؤ بمواقفه أمراً صعباً؛ لم يكن يلقى استجابة كبيرة في الولايات المتحدة، أو أنه فقد غالبية دعمه بسرعة كشخص تم انتخابه عن طريق الخطأ. وكان العامل الأهم في دعم هذه النظرية، هو استطلاعات الرأي والإعلام ومواقف معظم المشهورين بشتى المجالات.
بيد أنه في المقابل كانت هناك شريحة واسعة "صامتة" تعارض هذا التوجه، ولقد كانت هذه الشريحة بمثابة ترجمان للقيم التي يمثلها ترامب، بغض النظر عن تصويب أو نسف هذه القيم. وفي الواقع نحن نتحدث عن شخص على الرغم من تمثيله الخافت على صعيد الأوساط الإعلامية والفنية والتجارية، في الانتخابات التي خسرها، إلا أنه مع ذلك حين لحظة انفجار الغضب نجد أنه تمكن من الحصول على أصوات 75 مليون شخص. وليس من الصعب التكهن بأن هذه الأصوات ستسبب صداعاً قويّاً للإدارة القادمة للولايات المتحدة.
تطالب هذه الجماهير بإحداث تغيير في المجتمع الأمريكي، ومن الصعب جدّاً على بايدن الذي يقترب من الثمانين من عمره تلبية هذه المطالب، سواء بالنسبة له او لإدارته. حيث عندما يتمّ تلبية هذه المطالب لن يكون هناك أساساً أثر للقيم الديمقراطية في الولايات المتحدة. وعلى أيّ حال يشير هذا الوضع إلى انزلاق الولايات المتحدة إلى طريق مسدود.
يجدر بنا القول أن نشير إلى أنّ من ظل يقوّي دعائم الديمقراطية في بلده، على حساب دعم الديكتاتوريين في بقية دول العالم، لا شك أن سوء عمله سينقلب عليه، ولقد حصل ذلك فعلاً. فالولايات المتحدة باتت ديمقراطيتها قيمة يصعب الحفاظ عليها، حيث ازدادت هشاشتها بشكل أكبر ولا تزال محفوفة بالمخاطر.
لماذا يكرهوننا؟
هذا التطور الخطير يعتبر تطوراً محزناً ومقلقاً بالنسبة للولايات المتحدة. إلا أن ما هو أكثر حزناً ويحتم على الولايات المتحدة التفكير به ملياً، هو عدم التعاطف الحقيقي مع هذه الأحداث في أجزاء كثيرة حول العالم، بل كون الشعوب في عدة أماكن بالعالم كانت تتابع تلك التطورات كفيلم حماسي، مع تمنّي أن تؤول الأمور لما هو أسوأ؛ هذا الشعور بحدّ ذاته ينبغي أن يدفع الولايات المتحدة لإعادة حساباتها.
نلاحظ أنه بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول راح جورج بوش الابن يدفع العقول للإجابة عن سؤال؛ لماذا يكرهوننا؟. على الرغم من أن هذا السؤال لم يحظَ ببحث جاد وصحيح عن الإجابة، إلا أنه بمناسبة التطورات الجارية، ينبغي على بايدن فور الجلوس على كرسيّه، أن يجيب على هذا السؤال الجديد: "لماذا كانت الكارثة التي هدّدت الديمقراطية الأمريكية غير مزعجة بالنسبة للكثيرين يا تُرى؟".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.