أخفُّ أعراض الإصابة بكورونا وأقساها في الوقت ذاته.. ماذا يعني أن تفقد حاستي الشم والتذوق؟

سأبدأ سرد هذه الخواطر عن أقل أعراض فيروس كورونا خطورة، أو كما كنت أعتقد.

إذا طلب أحدهم منك يوماً أن ترتب الحواس الخمس من حيث الأولوية والأهمية، فلا أظن أن أحداً قد يضع حاستي التذوق والشم في المقدمة بأي حال من الأحوال.

 على سبيل المثال، حاستا البصر أو السمع (حتى القدرة على النطق بالرغم من أن النطق ليس من الحواس الخمس) هي حواس وقدرات تسمح للإنسان بالتفاعل والتواصل مع محيطه وتكون حلقة الوصل بينه ومن حوله. ويمكن ملاحظة أثر فقدان الآخرين لها بما لا يدع مجالاً للشك في أهميتها.. بعكس حاستي التذوق والشم فهما حواس بين الإنسان وذاته، ومن الصعوبة بمكان أن نلاحظ فقدانها لدى البشر من حولنا ما لم يخبرونا هم بذلك.

لا أرغب بالتطرق إلى الشق العلمي والفسيولوجي الخاص بأهمية هاتين الحاستين والمرتبط بالوظائف الحيوية للدماغ، ولكن أورد مثالين مقتضبين على أهميتهما. تخيل لو أن حريقاً آخذاً بالاشتعال في الطابق العلوي من المنزل أو في منزل الجيران، ولم تلاحظ ذلك بسبب تعطل حاسة الشم لديك. أو تخيل لو أنك تأكل طعاماً تسد به رمقك تحسبه طازجاً ولكنه في الحقيقة قد فسد وعجزت أن تدرك ذلك بسبب غياب حاسة التذوق.

إن انعدام حاستي الشم والتذوق يحوّل متعة الطعام والشراب إلى وظيفة حيوية مملة.. تعافها النفس لولا ألم الجوع. ومع مرور الوقت تفقد شهيتك بشكل ملحوظ وتكتفي ببضع لقيمات يقمن صلبك بعد أن كنت تستمع بما لذ وطاب. وينتابك شعورٌ غريب بالكآبة، كلما جلست إلى مائدة الطعام بالرغم من غناها وتنوعها وبالرغم من الجوع الشديد. فكل الطعام له نفس الطعم وهو لا طعم على الإطلاق!

حاستي الشم والتذوق.. النعم المنسية

لقد فقدت هاتين الحاستين تماماً في اليوم الثالث من تشخيص إصابتي بالكورونا وأحاول التعايش مع هذا الوضع الجديد منذ ٥ أيام. ولكي أصدقكم القول فإن هذه النعمة كما باقي النعم لا يدرك الإنسان قيمتها الحقيقية حتى يفقدها. فقد ألفنا هذه النعمة حتى ظننا أنها لا تزول أو أنها جزء لا يتجزأ من جسد الإنسان. كنت أظن الأمر سهلاً عندما كنت أسمع شكوى من سبقوني بالإصابة وأستهون الأمر، إذ كنت لا شعورياً أقارن فقدانها بفقدان نعمة البصر أو السمع. أما الآن فقد أدركت أن نعم الله علينا جميعها عظيمة بل صرت أعتقد أن المفاضلة بينها خطأ عظيم.   

أن تكون قادراً على المشي، على الوقوف، على الجلوس، على التمدد.. هي أمور معتادة و لا تتطلب -عادة- جهداً استثنائياً.. فالدنيا قائمة على الحركة وتقلب الإنسان خلال 24 ساعة بين الأحوال المذكورة هو من البديهيات. 

وأن تشعر بالإرهاق والتعب وربما بعض الآلام في العضلات والمفاصل بعد جهد كبير مبذول منك فهو أمر طبيعي في الغالب. فمثلاً إذا مارست رياضة الجري السريع لمدة طويلة أو عملت في تكسير الصخور لساعات أو نقلت قطعاً ثقيلة من أثاث بيتك صعوداً إلى الطابق العاشر.. فستشعر حتماً بالتعب والإرهاق المبرر.

لكن ما ستعجز عن فهمه حقاً خاصةً إذا كنت ممن مر بتجربة الإصابة بفيروس كورونا.. هو أن تشعر بالإنهاك الشديد بل بالإعياء دون أي جهدٍ على الإطلاق وأن تكون قدرتك البديهية المعتادة على التقلب بين المشي والوقوف والجلوس والتمدد هي أكبر تحدياتك على مدار 24 ساعة!

أن تكون آلام الظهر والرقبة والأكتاف والركب وعضلات الفخذ مبرحة بحيث يكون مسكنها الوحيد هو أن تغط في نوم عميق للتخلص من هذا الألم المصاحب لكل نفس.

سألني أحد الأصدقاء قبل يومين وهو يطمئن على أحوالي بمكالمة هاتفية: "صف لي الوجع؟" حاولت أن أصفه له موضعياً فتلعثمت وشعرت أني لم أوفق ولم أفِ الوجع والإرهاق حقهما من الوصف.. فصمت لبرهةٍ وهو لا زال ينتظرني على الهاتف محاولاً فهم الحالة.. فقلت له "انس ما وصفت لك قبل لحظات عن الآلام في الظهر والأكتاف والأفخاذ.. لكي تفهم ما أشعر به عليك أن تتخيل أنك في الجولة الخامسة والستين من مباراة ملاكمة للوزن الثقيل وتواجه خصمين معاً بدلاً من خصمٍ واحد.. الراحل محمد علي كلاي بالإضافة إلى مايك تايسون"..
صمت مطبق استمر للحظات على الجانب الآخر من الهاتف ثم تمنى لي الشفاء بصوت متجهم وأنهى المكالمة على عجل!

خاتمة

يريد الله عز وجل أن يؤدبنا، فكما أن نجاعة الدروس النظرية تتبلور وتتأكد وترسخ بالتجارب العملية، يريد الله سبحانه أن نجرب معنى وحال فقدان ما ألفنا من النعم، لعلنا نحسن الجوار والشكر.