يعتبر هذا المقال الجزء الثاني من مراجعتي لكتاب رئيس الوزراء المغربي سعد الدين العثماني "في فقه الدين والسياسة"
أما عن السياسة الشرعية والتجديد فالعثماني يرى في كتابه أن بعض المنشغلين بالعمل الإسلامي يعانون في فهمهم من الغلو في التشبث بالأشكال على حساب المقاصد، ومن الوقوف عند الظواهر على حساب المعاني، وهذا يؤدي إلى جمود وإلى مفاسد تتعلق بعقائد الأمة ومبادئها ومصير الملايين من أبنائها، وإنما أتت الشريعة لتحقيق المصلحة.
والمصالح عند الأصوليين ثلاثة: فمصلحة معتبرة، وهي ما ثبت اعتبارها بالأدلة الشرعية كالحدود والقصاص، ومصلحة ملغاة وهي ما ثبت بالأدلة ردها وعدم اعتبارها، وكلتا المصلحتين المشار إليهما واضحة ولا مجال للاجتهاد والتجديد فيهما.
أما النوع الثالث من المصالح فهي المصالح المرسلة، وهذه مناط الاجتهاد، وهي مصالح ملائمة لمقاصد الشرع، لكن لا يشهد لها دليل خاص لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، كفعل أبي بكر في جمع المصحف مثلاً، ويخضع الحكم فيها لموازنة المصالح والمفاسد ولتحقيق مقاصد الشريعة.
(لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على قواعد إبراهيم)، لقد كان في إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مصلحة تمناها رسول الله، لكن لما عارضتها مفسدة تنفير أهل مكة حديثي العهد بالإسلام تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السياسة الشرعية كما يقول ابن القيم ما كان فعلاً، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه رسول الله ولا نزل به وحي.
وقد ناقش أحد الفقهاء من قال (لا سياسة إلا ما وافق الشرع) فقال: إذا كان المعنى لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، ولكن لو كان المقصود أنه لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، بل فيه تغليط للصحابة، مثل الخلفاء الراشدين الذين أمروا بأشياء كثيرة لم ترد فيها نصوص كالدواوين مثلاً.
أما أبرز مثال على المصالح المرسلة والتعامل معها بالترجيح مع المفاسد فهو تولي الولايات العامة، وفي فتاوى ابن تيمية يقول: لو كانت الولاية غير واجبة ومن تولاها أقام الظلم فتقدم لتوليها من قصده تخفيف الظلم ودفع أكثره باحتمال أيسره، كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيداً، ومثال ذلك تولي يوسف خزائن الأرض في مصر، ليدفع عن الناس عاقبة القحط والمجاعة، بينما يعمل مع ملوك غير موحّدين، وقد لا يقيمون العدل في رعيتهم.
إذن: فهل تُولّى الولايات العامة لحكام لا يقيمون حكم الإسلام، وهل يُعتبر من الركون إلى الظالمين؟ (وَلَا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) الآية.
الإجابة بالطبع لا؛ لأن الركون المنهيّ عنه هو الرضا بما عليه الظَلَمة، أو تحسين أفعالهم وتزيينها عند غيرهم، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلاتهم لرفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون.
هل الدولة الإسلامية مدنية أم دينية؟
هل ينسجم وجود الإسلام ومجتمع الإسلام مع دولة مدنية، تَنبنِي فيها الشرعية على إرادة الشعب، وتصدر فيها القوانين من مؤسسات مخولة بالانتخاب، وتتخذ قرارها وفق ما تراه مصلحة للمجتمع؟
يبحث الكاتب عن الإجابة في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.
فيمكن تقسيم التصرفات النبوية إلى تصرفات تشريعية وتصرفات غير تشريعية، فالتصرفات التشريعية هي ما صدر عن الرسول للتشريع والاقتداء، وهي إما تصرفات بالتشريع العام في توجهها إلى الأمة كافة، إما بالتبليغ وإما بالفتيا، وهناك تصرفات بالتشريع الخاص، وهي مرتبطة بزمان ومكان وأحوال وأفراد معينين، وليست عامة للأمة كلها، ويدخل فيها تصرفاته بالقضاء والإمامة، وهي مُلزمة لمن توجهت إليهم فقط وليست عامة للأمة كلها.
أما التصرفات غير التشريعية فهي تصرفات لا يقصد بها الاقتداء والاتباع لا من عموم الأمة ولا ممن توجهت إليهم، وقد صاغ ابن قيم الجوزية في ذلك قاعدةً مهمةً "لا يجعل كلام النبوة الجزئي الخاص كلياً عاماً، ولا الكلي العام جزئياً خاصاً، فيقع من الخطأ وخلاف الصواب ما يقع"، وتعريف هذه التصرفات الشرعية الخاصة ما كانت مرتبطة بتدبير الواقع وسياسة المجتمع، فهي خاصة بزمانها ومكانها وظروفها، يقول الطاهر بن عاشور إنها ليست شرعاً عاماً ملزماً للأمة إلى يوم القيامة، وعلى الأئمة وولاة الأمور بعد الرسول ألَّا يجمدوا عليها، وإنما عليهم أن يتبعوه في المنهج الذي بنى عليه تصرفاته، وأن يراعوا التصرفات الباعثة عليها، والتي رعاها النبي صلى الله عليه وسلم زماناً ومكاناً وحالاً، ومثال ذلك ما نُقل عن الرسول "من أحيا أرضاً ميتة فهي له"، ففي غير عهد الرسول يكون للجهات المسؤولة أن تمضي مثل هذا، أو أن تتصرف بطريقة أخرى حسب مصلحة المجتمع الراجحة.
وكذلك: "من قَتَل قتيلاً فله سلبه"، فقد كان هدف الرسول الترغيب في القتال، وللإمام بعد الرسول أن يمضي تشريعاً آخر، وقد رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي ما يزيد على ثلاثة أيام في إحدى السنوات، ثم عاد في سنة أخرى فأباح ادّخارها، ولمّا سئل أفاد بأنه في سنة منع الادخار دخل على المدينة خلق كثير من الفقراء فأراد توفير الطعام لهم، ومثل ذلك تصرفاته صلى الله عليه وسلم في الأمور غير الدينية، والمقصود بها ما يقع فيه التنازع لمصالح الدنيا، وفي الحديث عن مسألة تأبير النخل الذي ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أظن ذلك يغني شيئاً"، فترك الناس تلقيح النخل فلم يُثمر، فأخبروا رسول الله فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله".
ويمكن استنباط بعض المؤشرات التي تتعلق بالممارسة السياسية مثل:
1- الوعي بأن التصرفات النبوية بالإمامة -وهي غير ملزمة- يوفر أساساً منهجياً للعديد من القضايا المطروحة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، فالإسلام ينزع صفة القداسة عن ممارسة الحُكام وقراراتهم، وكذلك لا قداسة للوسائل التي تتوسل بها الدولة لإدارة شؤون الأمة.
2- الدولة في الإسلام دولة مدنية، قراراتها بشرية، والحاكم لا يستمد شرعيته من قوة غيبية، بل هو مجرد فرد عادي يستمد ولايته من الأمة التي اختارته وكيلاً عنها، وهو مسؤول أمام الشعب في الدنيا، فضلاً عن مسؤوليته أمام الله يوم القيامة. وقد استدلّ الشافعي بحديث "لا تُقبل صلاة من أمَّ قوماً وهم له كارهون"، قال: فمن باب أولى لا يجوز له أن يحكمهم وهم له كارهون.
الإسلام السياسي وتحديات الإصلاح وتداول السلطة:
يثير لفظ الإسلام السياسي بعض التحفظات، إذ قد يحيل إلى نظرة تجزيئية للدين، بحيث تتبنى كل جماعة مكوناً من مكونات الدين، ويدحض هذا الفهم أن المعنيين هنا لا ينكرون المكونات العقدية والتصورية والعبادية والاجتماعية للدين، ولا يتوقفون عند المكون السياسي وحده، والتحفظ الآخر هو إحالة اللفظ إلى معنى التوظيف السياسي للإسلام، أي إلى نوع من الانتهازية السياسية، والكاتب يشير إلى أن مصطلح الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية هو المصطلح الذي اختاره حزب العدالة والتنمية المغربي للتعبير عن هويته.
أما الإصلاحية التي يقصدها المؤلف فهي تعني إنجاز التحولات الاجتماعية من خلال البنيات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، أي من خلال المؤسسات القائمة.
أما تداوُل السلطة فيعرفها المؤلف بأنها العملية السياسية التي ينتج عنها تغيير سلمي مدني في الفاعلين في صناعة القرار السياسي، والمنفذين له، والتداول يقتضي:
– وجود تعددية حزبية.
– انتخابات حرة ونزيهة تُعقد دورياً.
– إفراز المؤسسات الحاكمة بناء على نتائج الاقتراع.
منطلقات حزب العدالة والتنمية:
بداية يقول الكاتب إن النظام الملكي المغربي ذو طبيعة خاصة، تتميز بتجذره التاريخي وأصالته القائمة على المرجعية الإسلامية، وله رصيد في النضال ضد الاستعمار أكسبه تقاليد ذات فاعلية في تدبير التوازنات السياسية. وإضافة لذلك يتميز النظام بطبيعةٍ غير طائفية، ويرى حزب العدالة ضرورة التوافق على ثوابت وطنية تضمن الاستقرار وتحمي البلاد من التدخل الأجنبي، ويتم على أساسها التنافس السياسي وتداول السلطة.
أما ثوابته فهي قائمة على الإسلام والوحدة الوطنية والملكية الدستورية، أما مرجعيته الإسلامية فهي الوسطية باجتناب الغلو، والتجديد والتفاعل الخلاق مع الحداثة الفكرية والسياسية.
ولا يعتبر الحزب نفسه وصياً على الإسلام أو ناطقاً باسمه، ويؤكد الحزب على أن حقوق المواطنة الكاملة لا تمييز فيها على أساس الدين أو العرق أو الجنس، والانتماء للحزب انتماء سياسي على أساس المواطنة، واجتهاداته واختياراته اجتهادات بشرية، ويعتمد في سياسته على الاتجاه التوافقي بدلاً من منهج المغالبة والممانعة والإقصاء.
المرأة في فكر حزب العدالة والتنمية:
موقف الحزب من قضايا المرأة يُمثل في نظري أرقى ما وصل إليه الفكر السياسي في الإسلام في الماضي والحاضر، وتذكر أدبيات الحزب أنه نظراً للحيف الذي تعرضت له المرأة ومعاناتها من تفشي الجهل والأمية وهضم حقوقها، واستفحال استغلالها اجتماعياً واقتصادياً وجنسياً، فقد ضعف حضورها في مراكز صناعة القرار، ولهذا يؤكد الحزب على تعزيز دور المرأة فى الحياة السياسية.
يرى الحزب أن هناك فجوة تاريخية أضعفت دور المرأة، ولذا فإنه يحرص على ردم هذه الفجوة بالعمل على تكافؤ الفرص بين الجنسين. ويؤكد على التفاعل الإيجابي والخلّاق مع مكتسبات المرأة التي تحققت في المجتمعات الغربية، وما أفرزه من وثائق واتفاقيات، ويُشدد على أن هذا التفاعل لا يمنعه من إبداء تحفظاته على بعض الأبعاد الفلسفية والأيديولوجية التي تتعارض مع الشريعة.
لعلّي بهذا العرض قد ألقيتُ أضواء كاشفة على تفكير حزب العدالة والتنمية الحاكم فى المغرب، الذي مازلت آمل أن يقف الوقفة المرتجاة ضد التطبيع مع العدو الإسرائيلي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.