يبدو المشهد اليوم مختلفاً، ويبدو الفقيد -وبصورةٍ باتت نادرة- كأنه فقيد الجميع. منصات التواصل الاجتماعي التي لا يشيع عليها اسم راحل حتى تتضارب الآراء حوله.. حول مكانته، وقع رحيله، حبه أو بغضه، جنته أو ناره، تبدو اليوم متعقِّلةً حزينةً ومتفقة بشكل لافتٍ أن الموت فجَعَ الجميع، ووزَّعَ عليهم كلهم حصصاً من الحزن، بمشهدٍ لا يتكرر إلا نادراً جداً. كل المنصات تحمل نعواته، وكل العارفين به يبكونه، فهل يدرك الجيل الجديد لماذا وحَّد الحزن السوريُّون خصوصاً والعرب عموماً لأول مرةٍ ومنذ زمن؛ فيبكي كلُّهم حاتم علي؟
من لا يعرف حاتم علي!
تقول أمي مستنكرة حين نسألها إن كانت تعرف حاتم علي أو تذكره أم لا: ألا أعرف حاتم علي؟! هل يوجد أحدٌ لا يعرفه؟!
هكذا، رسخ الرجل قبل رحيله اسماً صار ماركة مسجلة في عقول السوريين جميعاً، علامة يكفي ذكرها في نهاية شارةِ مسلسل ما حتى يجلسوا أمامه بكلِّ راحةٍ وهم يدركون أنهم أمام عمل يحترم عقولهم، وأخلاقهم، ومبادئهم، ولا يستنزف وقتهم دون داعٍ، اسمٌ بات دليلاً دامغاً لا جدال فيه على نجاح أي عملٌ تلفزيوني يدخله.
حاتم "مرايا"، و"الفصول الأربعة"، حاتم "كريم ونبيلة وجميلة" المسلسل الذي لا زال أهل سوريا يعيدون مشاهدته حتى الآن، كأنهم يستجرون فيه ذاكرتهم القديمة في محاولةٍ للتشبث بها، ويحفظون فيه أيامهم الذهبية التي يخشون نسيانها، يستعيدون عوائلهم كأنها مجتمعةٌ بفصولها الأربعة، يعيشون تفاصيل تقلباتها وحياتها سوياً.. حاتم الذي استطاع أن يجعل نفسه جزءاً من عائلة كل سوري وسورية، ويأخذ لها مساحةً من ذاكرة كل عائلة، يرتبط بذكرياتنا، بوجداننا، بفصولنا الأربعة وتغريبتنا.
تغريبة رشدي، ورشدي حاتم، وحاتم ابن الجولان المحتل الذي عاش التجربة صغيراً، فاستحضر التفاصيل وركَّبها، وفصَّلها، ليصنع عملاً يرتكز عليه تاريخٌ، وتنطوي داخله قضية، ويحمل في ثنياته وثوانيه ؛وللأبد- مرجعاً لكل من أراد أن يقصَّ على أبنائه المشهد كأنهم يرونه، ويزرع داخلهم وطناً هو من حقهم وحدهم. عملٌ جعل وجداننا يقترب من فلسطين، نلتقيها في مشاهده، نقرأ الواقع بشكل أعمق، نعيش الغربة والتغريبة ونوثِّق وجعها في أذهاننا كأننا كنا هناك نلملم مع أم أحمد أغراضاً قليلة، قليلةً فقط لأنها "أكمن يوم وراجعين".
من فلسطين لإشبيلية
لم يأخذنا حاتم لفلسطين وحدها، بل لإشبيلية، وغرناطة، وبغداد، والرصافة لعز المسلمين ومجدهم، لتاريخنا الذي عرفناه من خلال مسلسلاته، لخلافة الفاروق عمر (رضي الله عنه)، الحوارات الرائعة، اللغة الرصينة الغنية، الديكور، الفنيِّات بمجملها، لمضارب قبيلتي تغلب وبكر في الدراما التي لا نملّ من مشاهدتها أبداً، والملحمة الراسخة داخل ذاكرة العرب جميعاً "الزير سالم"
هل نرثيك كما رثى المهلهل كليباً؟! أنقول هل ماتَ حاتمٌ كله؟!
حاتم الذي ساهم في تشكيل هوية ووعي وذائقة جيل كامل، أعاده لتراثه، وعرَّفه حقوقه، وأثرى عقله بأعمالٍ قيِّمة المعنى، كبيرةُ الأثر، فكان جزءاً من تكوينهم الثقافي والنفسي.
في ظل دراما الجهل، والإسفاف والتعرِّي، والهبوط، دراما الدعارة، والقبل، والأخلاق المنحلَّة، وقصص الحب التافهة؛ كيف يمكننا ألا نبكي مبدعاً محترماً ومثقفاً كحاتم؟! كيف يمكننا ألا نرثي الرجل الذي حوَّل الشاشة لكتاب، وحوَّل النص التاريخي لواقعٍ مرئيٍّ مُعاش وقريب من متناول جميع فئات المجتمع؟! كيف لا يرثيه السوريُّون؟!
السوريُّون يبكون حاتم لأن لديهم تغريبته الخاصة التي تنتظر من يلملمها، يأخذ بتفاصيلها ويزرعها في عيون وقلوب وذاكرة كلِّ العالم.. لأنه لا زال هناك الكثير ليخرجه عن شتاتهم الجديد ويرويه.
يقول الراحل في مقابلةٍ له واضعاً أساساً متيناً لصناعةٍ مسيرة كل مبدعٍ لا كل مخرجٍ فقط: ما يصنع مسيرة أي مخرج ليس فقط تلك الأعمال التي يقبل تقديمها وإنما تلك الأعمال التي يقول لها: لا.
كيف لا نرثي حاتم الذي استطاع أن يقول لا في حين أن الجميع يقول أمام المال والشهرة: نعم؟!
وفي رحلة بحثنا عما نرثيه به؛ نعود إليه.. نغرق فيما قيل داخل مشهدٍ أخرجهُ، على لسان الراحل القدير خالد تاجا في مسلسل الفصول الأربعة:
"الموت حق، كاس بدو يمر على كل هالناس، بس يعني أنا زعلان على حالي، زعلان من حالي، لأنو نحنا بالموت ما بنكون عم نبكي عالميت، الميت راح لوجه ربو، بس نحنا اللي فقدنا شخص عزيز بيترك بحياتنا فراغ ما بيتعبى أبداً، وبنحس بإنو نقصنا شي، بنبكي لأنو نقصنا شي، زعلان من حالي لأنو دائماً بكتشف إني ما تطلعت منيح بعيون اللي ماتو، بندم لأني ما قعدت معون أكثر، ما حكيت معون أكثر، ما شبعت منون". ونحن يا حاتم علي لم نشبع من إبداعك، ولكننا نثق بأنه سيقعد معنا دائماً، ليثبت أن شخصاً مثلك يستحيل أن يموت كله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.