في صغَري لم أتعلَّم أن أقول لجدتي "يا أمي" إلا من ماما، لم يعلمني أبي أن أقول لأمه "يا أمي"، فقد كان معظم اليوم في العمل، ويعود من العمل مرهَقاً يكاد يجلس معنا نائماً، فكنت طوال الوقت مع ماما، ولم تُكوِّن ماما لديّ مفهوم "الحما" عن جدتي، لِما رأيته من إحسان بينهما، فكانت هذه ابنة لتلك، وكانت تلك أمّاً لي.
هذه وما اجتمعنا على طعامٍ ولا ذهبنا إلى مكانٍ ولا اتُّفق على أمر ولا اختُلف في مشكلة، إلا وجدت أمامي ابنةً وأماً تتعاملان.
ونشأتُ في البيت أنتظر العيد كل يوم أَحد، فكان اليوم الذي تجتمع فيه عماتي كل أسبوع في بيتنا، بيتهم، وتمتلئ الغرف بالحياة، ويضج البيت بالأولاد الذين يتعاركون أكثر مما يتصالحون، ويزخر المطبخ بضحكات عماتي، وتشتعل المعارك بين الأطفال جميعاً، وتقوم الحروب وتدور الدوائر، والضحكات العذبة لا تنقطع عن القلوب الرطبة والأسماع المطرَبة، وكنتُ أراقب هذا كله، أشترك في المعارك حيناً، أَضرب وأُضرَب، أخاصم وأصالح، أشاهد ويسجل عقلي المشاهد، وتظل ضحكات عماتي عالقةً في صدري حتى صباح الأحد التالي بعد أسبوع من اجتماعهن الحالي.
وكان بعض الأصدقاء في المدرسة يشكون من عماتهن، يحكون بسخرية لاذعةٍ عن بعض الأفعال، لكنه بقي حديثاً مستغرَباً بين أولاد الصف جميعاً، وحدثاً شاذاً عما يلقاه كل منا في بيته من حب لعماته، لم نجد في أصواتهن إلا لذة سماع "دلع" أسمائنا لديهن، ولم نجد في أنفاسهن إلا الدفء كلما أصرت واحدةٌ منهن على تقبيلنا، ولم نجد في عيونهنّ إلا لمعة لا تختلف كثيراً عن لمعة عين الأم، كلما أصابنا مكروهٌ ولو كان "نزلة برد".
وكان مفارقةً أنَّ في يوم اجتماع عماتي، كان أبي يدعو من على قيد الحياة في عماته، فكان يوم العمات العالمي، وكان الدفء مضاعفاً والبر كبيراً، والحب ينصب فوق رؤوسنا صباً.
وكبرتُ، وظلت العمات في عيني كما هنّ صغيرات مدللات، ولو ساقت كل واحدة منهن بطنها أمامها أربع أو خمس مرات، وصار أولادهن أطول مني، أو منهنّ من يملكن أولاداً أكبر مني بالفعل، لكنهنّ ظللن غير مستثنياتٍ لديّ من الدلال، فأحمل عمتي فوق كتفيّ، وأدور بها حتى تقوم أمي "جدتي"، تترجاني أن أعيد عمتي إلى الأرض خشية أن ندوخ ونسقط و"يجرالنا حاجة".
وكبرتُ، والعمات فُضليات كما هنّ لم يتغيرن، كبيرات المقام حسناوات الوجوه والطباع، لا أسمع صوت واحدة منهنّ إلا حضرت أمامي بهيئتها ولو كان بيننا ما بيننا من مطارات وحدود، ولا أجدهنّ في أي موضعٍ إلا كما عرفتهن، لا يخيبن ظني، ولا يخذلن توقعي، ولا يفعلن إلا ما يليق بمقامهنّ من حسن وإحسان.
وكبرتُ، وتحكي لي أمي أسرارها، ولو لاقت من جدتي شيئاً لحكَت لي، لكنها لا تحكي عنها إلا ثناءً، ولا تقول إلا مدحاً، ولا أسمعها تتحدث بطيب خاطرٍ عن أحد بقدر حماتِها، أو "أمها"، ولا أجدها تقول عن عماتي إلا كل خير، وما زال اجتماعهن في البيت مهما غُيِّب منه أهله، اجتماعاً مقدساً، يحتفظن بضحكاتهن فيه وإن كان الوضع مختلطاً بالشجن، ويحفظن مزاحهن دون أن ينقص نكتةً واحدة، ويحتضنني كلما سمعن صوتي، وأحضانهن أكبر من المسافات وجوازات السفر ومطارات الأجانب.
عمتو الحرباية
لم أجد في بيتنا ولا في شارعنا ولا في بلدتنا أن "الحما عما"، أو "عمتو الحرباية"، إلا نادراً كان يُحكى، ولا بد أن لكل قاعدةٍ شواذ. لكن كما قلنا هذه الحالات هي "شواذ" القاعدة، والقاعدة تقول إن العمات كريمات مكرمات، حبيبات القلوب مقربات، جميلات العيون عذبات الألسنة حلوات الدواخل نقيات السرائر صافيات الصدور باسمات الثغور. والقاعدة تقول إن الحما حِمى، والعمات كالأمهات.
لم أعرف مصطلحات الإساءة إلى الأهل، إلا حين دخلتُ عالماً افتراضياً، مهما مس الواقع أو شكّل الواقع حتى، فإنه يظل محتفظاً بأنه افتراضي في أمور كثيرة، يحاول أن يكون كياناً موازياً للحقيقة، يحاول تزييف الأمور بواسطة مَن عليه مِن مراهقين لا يحتفظون بشيء من "ريحة زمان"، ولم يجدوا في بيوتهم ربما الإحسانَ الذي رأته الأغلبية العظمى منا، ثم تصدروا في الحديث حتى ظنّ الناس أنهم الأغلبية لا نحن، وأن العمات بالفعل حربايات، وأن الحموات يقبضن الحياة من قلوب زوجات أبنائهن.
ويختلف البعض ويتفق البعض، تسكن الزوجة مع زوجها في بيتٍ واحدٍ به أم الزوج، أو يسكنان في بيتٍ آخر قريبٍ منه أو بعيد عنه، تنادي الزوجة حماتها "أمي" أو تناديها بغير ذلك، تذهب إليها كل أسبوع أو تقيم عندها كل يوم، وأمور كثيرة تتراوح حسب كل مجتمع وبيئة ونشأة، لكن الأصل ثابت في الإحسان.
ولا بأس في أن تغار زوجة أو أم، فكلتاهما أنثى، والغيرة طبعهما، تغاران في مواقف، لكنهما لا تتغيران، والابن بينهما يراعي بفطنةٍ مشاعر كل منهما، فيجبر بخاطر كل منهما، دون أن يظلم أماً على حساب زوجة، ولا زوجة على حساب أم، وإنما يكرم كلتيهما، فتكرمانه بعد أن تستردا وعيهما، وتفيقا من غيوبة الغيرة.
لكن الأصل ثابت يا سيدي، وليس أهنأ على قلب الأم من زوجة لابنها تطيب له حياته، وتسعد قلبه، وتساعده في مواجهة الحياة، وتحسن مطعمه ومشربه وملبسه، وترعاه كأنه ولدها، وتكون له بعد أمه أماً، وتكون له قبل كل الناس صاحبة، وتكون له دون كل الناس زوجةً وحبيبة.
والمصيبة ليست متوقفةً للأسف عند ذلك الحد، وإنما تعميم في كل شيء، تعميم الشاذ عن القاعدة حتى تنسى القاعدة نفسها.
وأتخيل الأمهات تقرأ ما تكتبه الفتيات بسخرية عن الحموات- وهن لم يتزوجن بعد غالباً-، ويُخيل لهنّ أن فتيات اليوم يخطفن الشبان من بيوت أهلهم، فالأم تشعر بالتهديد أن ابنها سيبتعد عنها، وأنه سيهجرها، وأن بنات النهارده قليلات الأدب، لا يُعرن احتراماً ولا تقديراً لأهالي أزواجهن، وليس مطلوباً منهن أن يخدمن في بيوت أمهات الأزواج، وإنما المنتظَر منهنّ أن يكنّ محسنات كريمات، لكن الواقع "الافتراضي" المر يقول إن الأمر أشبه بفيلم رعب أو أكشن، بسبب عدم نضج الصبيّ وزوجته المراهقة.
لكن الواقع الحقيقي به الكثير الذي يمكنك أن تشعر خلال مشاهدته بالدفء، إذ زوجة الابن تعامل حماتها أجمل مما قد يعاملها بناتها، وأن الحما تعامل زوجة ابنها أجمل مما قد تعامل بناتها، وأن الأُنس الذي في تلك البيوت، كان مصدره الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا "مواقع التواصل" التي تقطع الأوصال.
فأرجوكم ابتعدوا في تلك الأمور عن المراهقات، ووجهوهن لينظرن في أمر تربيتهن، فلعلهن أنشأن حسابات فيسبوك قبل أن تكتمل دورة التربية، ولعل ذلك التنفير الذي يسُقنه ويسوّقنه للناس، لن يأتي لهنّ إلا بما يخشينه، لأن في الغالب "اللي بيخاف من عفريت بيطلع له"، وهذا قد يثبت صحة نظريتهنّ لهنّ فقط، لكنه لن يتحول إلى قاعدة مهما كان.
نهايةً، فالأهل كرامٌ كريمون، لا يسيء إليهم إلا بخيل في المشاعر ناقص في الود، ولن يصلح ما بين زوجين يفسدان ما حولهما، ولن يشعر بالدفء في نفسِه من لم يشعر بالدفء تجاه أهله الصالحين، ومحرومٌ من نعيم الدنيا، وضحكها الصافي، من لم يرَ العمات حوريات من الجنة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.