أكتبُ هذا المقال وأَعِي جيداً أنني أدخل حقل ألغام لا تحذيرات فيه، أمشي فيه على أطراف قدمي حَذِراً في كل كلمة أكتبها، لا سيَّما أن الحديث سيكون عن دولة مُثيرة للجدل؛ ألا وهي دولة "إيران".
لقد ساءت سُمعة إيران في الفترة الأخيرة؛ بسبب ارتباط اسمها بالحروب والصراعات والعقوبات الدولية، كما ارتبط اسمها عند المسلمين والعرب برعاية النُّظُم الاستبدادية ومحاربة الربيع العربي إذا ما رأت فيه تهديداً لمصالحها، حتى صار مَن يحبها أو يحب ثقافتها وتاريخها موضع اتهام ومحل شك. ومع انتشار تلك السُّمعة السيئة التي نمَّاها النظام الإيراني وزاد في تشويهها؛ أصبح مَن يحب ذلك البلد وثقافته أمام معادلة صعبة الحل، فهو عاشق لإيران كجزء من حضارة الشرق، مثلها مثل عشقه لأي بلد شرقي آخر، وفي نفس الوقت قد تلاحقه تهمة تلميع نظامها!
"الزَّنّ على الوِدان أَمَرّ من السحر" هو مَثل شعبي مصري، ربما تفسير لنشأة سُمعة إيران السيئة؛ وهو تكرار وسائل الإعلام العربية والدولية الحديثَ عن شَيْطَنة إيران ونظامها، وربما وطَّد النظام الإيراني الحاكم تلك الصورة الذهنية عبر جرائمه في الخارج واستبداده في الداخل، فأصبح أيُّ شيء يَتْبعه وصفٌ إيرانيٌّ مُشَيْطَناً، حتى إنك لَتُصاب بالرهبة بمجرد مقابلة شخص إيراني!
ربما تسبَّب ذلك "الزَّنّ" في نشأة المتلازِمة -عند أغلب الناس- بين: (كُره أيِّ شيء يأتي من ذلك البلد، وعدم الفصل بين إيران كبلد له تاريخه الذي يشغل حيِّزاً كبيراً من تاريخ الإسلام والشرق وبين نظامه الحاكم المستبد الظالم). فكثيرون ينشرون صُوَراً من "شيراز، أو أصفهان، أو تبريز"، أو ينشرون المباني والمساجد ذات المعمار الإيراني بزخرفتها ونقوشها التي تَسُرُّ الناظرين؛ ثم يجد هؤلاء انتقادات لتلك الصُّوَر لكونها من إيران، أو يعلِّق البعضُ ساخرين منهم، بل قد يرميهم البعضُ بتبديل المذهب!
ومن الأكيد أن ناشر تلك الصُّوَر له دافع جمالي دفَعَه لنشرها، وليس دافعاً سياسيّاً من أجل تلميع النظام السياسي الإيراني، فإعجابه مُتجرِّد من السياسة أو أي مذهب عقدي تماماً، كحُبه للمغرب والطراز الأندلسي، أو إعجابه بالطراز المملوكي أو الأُموي؛ فكل ذلك لا يعني أبداً حُبه أو تلميعه للأنظمة الحاكمة التي فيها تلك المباني التاريخية!
شيطنة إيران
إن النظرة إلى إيران كعضو مُسَرْطِن -أو مُسَرْطَن- في جسد الأمة الإسلامية يجب بتره؛ هو عين الخطأ، فإيران، على سبيل المثال، ظلَّت دولةً مسلمةً سُنيةً عقوداً من الزمان، وأخرجَت الكثيرَ من علماء أهل السُّنة الذين ساهموا مُساهمةً كبيرةً في حِفظ الدِّين، ربما مَرِضَت في أواخر عهدها عبر تحكُّم الفَسَدة فيها، لكنها ستظل أرضَ إيران التي نحبها ونطمع أن تعود لدفءِ البيت السُّني التي طالما تربت بين جدرانه.
كما أن النظرة إلى العِرق الفارسي بأنه عِرقٌ مُشَيْطَنٌ جَهَنَّميٌّ؛ هي نظرة قاصرة مبنية على مُدخَلات خاطئة؛ فلطالما أخرج ذلك العِرق عُلماءَ أقحاحاً حفظوا السُّنة وعلوم الدِّين؛ ففي عِلْم الحديث كان أغلب أئمة الحديث الستة من بلاد فارس، بالإضافة إلى "ابن راهوية، والحاكم، والبيهقي". وفي عِلْم التفسير كان "الرازي، والبغوي، والطبري". وفي علوم اللغة العربية كان "سيبويه، ونفطويه، وأبوعلي الفارسي، والزَّجَّاج، وابن المُقفع، وبديع الزمان الهمداني"، وهذا غَيْضٌ من فَيْضٍ من علماء الدين من ذوي الأصول الفارسية. فالفُرس عِرق كأيِّ عِرق أعجمي دخل الإسلام؛ كـ"الأمازيغ، والبربر، والأكراد، والتُّرك، والحبش" فيهم الصالح والطالح، وليسوا مخلوقين من ماءٍ جَهَنَّميٍّ أو من طِينةٍ شيطانيةٍ! فبلاد فارس ظلَّت ذات لسان عربي مئات السنين بعد دخول الإسلام إليها، حتى ابتُلِيَتْ بمَن غيَّر مذهبها ولُغتها وأعادها إلى اللغة الفارسية.
حتى المذهب الشيعي نفسه لا علاقة له بالعِرق الفارسي؛ فنشأة التشيُّع عربية خالصة، فأغلب الفِرَق الشيعية التي نشأت هي عربية المنشأ والتأسيس، كما أن مَن نَشَر المذهب الشيعي في إيران ليسوا من العِرق الفارسي من الأساس، بل كانوا من أعراق أخرى؛ كـ"الدولة البويهية" التي تأسست سنة (321هـ)، وهي أول دولة شيعية تأسست في إيران، وهي من قومية لا علاقة لها بالفرس، حتى الذين تتابعوا على حُكم تلك البلاد بعدهم لم تكُن أصولهم فارسية رغم اعتناقهم المذهب الشيعي؛ كـ"الدولة الإلخانية، والدولة الشيبانية، والدولة الجلائرية"، حتى الدول القريبة من العهد الحديث كانت أغلبها من أصول "تُركمانية" وليست فارسية؛ مثل: دولة آق قويونلو (1467-1502م)، والدولة الصفوية، والدولة الأفشارية، ثم الدولة القاجارية.
وربما كانت أول دولة يتحكَّم في مقاليد حُكمها فارسي شيعي الأصل هي "الدولة البهلوية" التي أسَّسها "رضا بهلوي" سنة (1925م)، وهي دولة علمانية تابعة للغرب، حتى قامت الثورة الإيرانية سنة (1979م) والتي أوصلت النظام الحالي (الملالي) للحُكم، وقد حَكَم إيران إلى الآن بالحديد والنار، وأسَّس نظاماً فارسيّاً شيعيّاً متعصباً، وربما صنعت تلك الحقبة نفوراً كبيراً بين إيران التي نُحب وبين العالم الإسلامي، بل وبين العالم أجمع!
أَضِف إلى ذلك أن في الوقت الذي كانت فيه إيران تتبع المذهب السني كانت هناك مصر على يد الفاطميين، وحلب على يد الحمدانيين، دولاً تتبع المذهب الشيعي ومع ذلك لم يُلْصِق أحدٌ التشيُّعَ بأعراق تلك البلاد! ولسنا هنا بصدد نقد التشيع كمذهب، فلكل حرية اعتناق المذهب الذي يحب، ولكن نقد ازدواجية الحُكم والتحيز المبالغ به ضد إيران شعباً وثقافة.
نقطة أخرى يجب أن تُضاف لفَكِّ المعادلة؛ وهي النظام الحاكم الإيراني الحالي؛ فالنظام الإيراني الحالي نظام مُستبد، يحكم إيران بالحديد والنار، وداعم لجماعات إجرامية في سوريا، ولبنان، واليمن، عبر أذرُعه في تلك الدول، مشتبك مع النظام العالمي بتصريحات عبثية لا جدوى منها سوى ملء نشرات الأخبار والصحف بالتصريحات الساخنة!
رغم ذلك، لعب النظام الحاكم الحالي دوراً كبيراً في تشويه صورة إيران والعِرق الفارسي؛ فهو كالمجرم في بيت العائلة المُتسبِّب في قطيعة كل بيوت الشارع لهذا البيت؛ ظنّاً منهم أن كل أبناء البيت كهذا المجرم، مع أن هذا البيت قد يكون فيه الحَسَن والطيِّب والمجرم، فليس بالضرورة أن يكون كل سُكان هذا بيت مجرمين، ولا سيَّما أنه بيتُ عائلةٍ كبيرٌ، تجاوَز عدد سُكانه 80 مليون إنسان، وبيتٌ ذو تاريخ وثقافة لها صيت عبر التاريخ.
إن تدعيم فكرة تعميم شَيْطَنة كل ما هو إيراني؛ هي فكرة ساذجة صبيانية تدعم نظام إيران الحاكم الذي يسعى من بداية استيلائه على الحُكم عزلها عن محيطها وجيرانها، وحَفْر أخاديد بينها وبينه، وقَطْع الحبل الممدود الذي طالما أخرج لتلك الأُمة عُلماءَ أقحاحاً حفظوا السُّنة وعلوم الدِّين.
عودة إلى البداية
بعد محاولة فَكِّ تلك المعادلة الصعبة أَرجِع مرةً أخرى إلى أول المقال؛ إلى الناشر المُعجَب بمئذنة أسطوانية الشكل بها نقوشات وزخرفات هامَ وجدانه بها. وإلى الناشرة صورةَ سجادة إيرانية سُرَّت برسوماتها من النباتات والأشكال الهندسية البسيطة. وإلى ذاك الثالث الذي نَشَر نوافذ إيرانية عُكِسَت ألوانُها المختلفة الباهرة داخل بيتٍ بسيطٍ تملأ حوائطه نقوشُ الفُسَيْفِسَاء. وإلى كل أولئك الذين يُحبون إيران كإيران البلد وليست إيران النظام الحاكم، إلى الذين يعشقون الفن وجمال التفاصيل؛ أنا أفْهَمكم جيداً، أفْهَم ما تقصدون، إنكم تُحبون إيران التي هي جزء لا يتجزأ من الشرق الذي تعشقون فنونه، إنكم تُحبونها حُبّاً مُتجرِّداً من أيِّ قَيْد، تنظرون إليها بعَيْنٍ لا ينظر بها إلا القليل.
إن إعجابكم هذا ذكَّرني بالمفكر محمد أسد حينما زار إيران وقال في وصفها: "تمشَّيْتُ بين أشجار الحور في أصفهان؛ وأعجبتني مداخل القصور العظيمة، وواجهاتها الرائعة، كما أعجبتني روعة صقل قِباب مسجدها الكبير. عِشْتُ في المدن والقرى، وعَبَرتُ الصحاري، وخُضتُّ المستنقعات المالحة، ونسيتُ نفسي كليّاً، وفقدتُّ الإحساس بالزمن في تلك البلاد العجيبة صاحبة الحضارة القديمة".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.