اجتذبت مؤسسة الحكم المغربية الكثير من الأضواء بعد خطوة التطبيع مع إسرائيل، وحيث إن حزب العدالة والتنمية هو الذي يشكل الوزارة في المغرب، فإن الجمهور الإسلامي توقع منه موقفاً آخر ضد التطبيع، حيث يعتبر هذا الحزب امتداداً للأحزاب الإسلامية، ولكن البعض يرون أن له نكهة مختلفة.
أحاول هنا أن أقدم شيئاً عن فكر الدكتور سعد الدين العثماني رئيس الوزراء المغربي، من خلال كتابه في فقه الدين والسياسة، وهو كتاب صدر له قبل أن يكون رئيساً للوزراء، ترى كيف سيتعامل صاحب هذا الفكر مع الانفتاح مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها؟
لا شك أن التجارب المهمة في العمل الإسلامي التي برزت من خلال تطورات حزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب خليقة بالاعتناء والمدارسة، خاصة أنها قد استطاعت أن تتجنب إلى حد كبير الكثير من الصراع مع قوى مجتمعية.
الأمر الذي أدى إلى جر الحركات الإسلامية المشرقية إلى صراع وجود كانت نتيجته حتى اللحظة الراهنة ألا يأخذ مشروعها الإسلامي طريقه إلى النور، وهذا الكتاب يوضح بجلاء الكثير من اختلاف أنماط التفكير بين المغاربة والمشارقة التي انتهت إلى اختلاف المشهد
المؤلف من أبرز الزعماء المغاربة
فبالإضافة إلى تجربة العثماني السياسية الفريدة هو صاحب معرفة علمية ثرية، وابن لعائلة أمازيغية (بربرية) معروفة بالعلم والعلماء منذ ألف سنة، كما أنه طبيب متخصص في الطب النفسي، وحاصل على الإجازة في علوم الشريعة والدراسات العليا في الفقه، وهو أحد منظري الفصل بين العمل الدعوي والسياسي، وتطبيق ذلك على أرض الواقع.
وهو أحد القادة الشباب الذين تولوا مسؤولية حركة الشبيبة الاسلامية بعد خلو مقعد الرئيس المؤسس عبدالكريم مطيع بهجرته خارج المغرب، حيث أسس هو وزملاؤه الحركة التي ورثت الشبيبة وعرفت لوقت قصير بالجماعة الإسلامية، لكن قناعات العثماني أدت إلى تغيير الاسم إلى حركة الإصلاح والتجديد حتى لا يفهم من الاسم السابق إقصاء أو نفي الاسلامية عن الآخرين (كما يُفهم من إسم الاخوان المسلمين مثلاً)، وقد غيرت الحركة قيادتها أكثر من مرة وكانت في ذلك سباقة لمثيلاتها في الساحة الإسلامية.
يتضح من كتاب العثماني "في فقه الدين والسياسة" أن فكره تأصيلي ملتحم بالواقع وقد أصل للمشاركة السياسية، ولعله تمكن من إقناع الكثيرين من الحركيين الاسلاميين برؤيته التي كانت غريبة على الحركيين الإسلاميين باتكآئه على تراث ابن تيمية.
علاقة الدين بالسياسة
يرى العثماني في هذا الكتاب أن العلاقة بين الدين والسياسة ليست علاقة فصل، لأن الدين حاضر في السياسة في كل البلدان والثقافات بدرجة من الدرجات، ولكن هذه العلاقة ليست علاقة وصَل تام؛ لأن الفعل السياسي في الإسلام دنيوي بامتياز، فهو بشري اجتهادي تقديري، رغم كونه من حيث العموم يخضع لمبادئ الدين وأحكامه.
وقد سادت هذه النظرية في العمل الإسلامي في المغرب فمثلاً حركة التوحيد والإصلاح حركة للدعوة والتربية، غير أنها لا تمارس العمل السياسي، بل وتترك العمل السياسي كلياً إلى حزب العدالة والتنمية، وهذه مستقلة عن تلك استقلالاً تاماً.
السنة والفقه المقاصدي
يتحدث الفصل الأول في الكتاب عن الفقه المقاصدي، وهو منهج في التعامل مع الفقه شاع في المغرب وبرز فيه أئمة في الماضي كالقرافي والشاطبي، وهو منهج يدعو إلى الالتفات إلى مقاصد الشارع في الأحكام المتعلقة بالواقع البشري المتغير، خاصة وأن المتابع للقران والسنة يراها ترشد إلى ارتباط الأحكام بعللها ويدور الحكم مع العلة حيث دارت، هذا في المعاملات أما في العبادات فالمطلوب هو تنفيذ النص دونما بحث عن العلة، ويدلل الكاتب على خطر الحرفية في فهم النصوص بأدلة كثيرة ومن الأدلة التي ساقها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا وغربوا"، فالعلة أبانها الرسول هي احترام القبلة بعدم الاستقبال والاستدبار، ولكن التشريق والتغريب خاص بمجتمع المدينة التي تقع شمال مكة، أما التشريق والتغريب في غيرها فقد يعني استقبال القبلة واستدبارها، إذن بالفهم الحرفي من غير اتباع المقاصد يخرج النص عن معناه، وعلى ذلك أمثلة كثيرة..
ثم يتحدث عن أقسام تصرفات رسول الله فمنها ما هو لازم لجميع الامة بإطلاق، ومنها ما هو غير ملزم في أحكامه الجزئية التي يجب أخذها في إطار الملابسات والظروف التي صاحبتها أول مرة، ومثل ذلك تصرفه في القضاء والإمامة.
علم أصول الفقه
هو العلم الذي جاء لضبط الفهم، وخاصة ضوابط الاستنباط الفقهي، ومنهجه عقلي مجاله الواقع، ومن مناهج أصول الفقه اضافة إلى الاستنباط الاستقراء، أما لماذا كانت الحاجة إلى علم أصول الفقه؟ فمن الواضح أن ذلك كان لأسباب أهمها: بُعد الزمان عن عصر الوحي، والحاجة إلى ضبط العُرف اللغوي، حيث قد تختلف مدلولات اللغة باختلاف البيئة التي تستعمل فيها زمانياً ومكانياً، وضبط المناخ القرآني الذي نزل ضمن جو عام كان سائداً في زمن الوحي، ففُهم من خلال ضوابط في لا وعي الناس، لذا فقد تميز علم أصول الفقه بالاعتماد على الكليات والقواعد العامة لضبط التشريع، بدلاً من الضياع مع الجزئيات.
قد يقول قائل ولكن ما ينشأ عن هذا قد يخالف ما نعرفه عن اكتمال الدين في عصر الرسول، يرد الإمام الشاطبي أن اكتمال الدين إنما يعني اكتمال أصوله الكلية التي بها تُستنبط الكليات وتعرف، وحفظ الدين إنما هو حفظ الأصول وصيانتها عن التبديل والتحريف والخطأ، إن من مزالق التعامل مع نصوص الشريعة هو أن تؤخذ بعيداً عن كلياتها، وهذا قد يؤدي إلى عكس المراد شرعاً من حكم النص، ولهذا أنكرت أمنا عائشة مثلاً فهم بعض الصحابة لأحاديث رويت عن رسول الله مثل إنكارها على ابن عمر حديث إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه لأنه يعارض الأصل القرآني (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، ولذا فسرت الحديث بأن المقصود بعذاب الميت تألمه علي أهله لا أن يعاقب عليه، وحين ننتقل إلى السياسة الشرعية يرى بعض الإسلاميين أن في مشاركة الإسلاميين غيرهم في العمل السياسي هو إعطاء الولاء لغير المؤمنين، وليس ذلك إلا لجهلهم بمقاصد الشرع المطلوبة في الحكم على الواقع البشري، وسوء فهم لحرفية بعض النصوص وذلك لعدم فهمها ضمن كليات الشريعة في الموازنة بين المصالح والمفاسد، واحتمال أدنى المفسدتين إذا رجح الوصول إلى أعلى المصلحتين.
ثم ينتقل المؤلف إلى شرح فقه مراتب الأعمال، الذي بغير فهمه لا يجوز الاتكاء على حفظ بعض النصوص، بل إن ابن تيمية قال إن أبا هُريرة من أحفظ الصحابة ولكن أين فهمه من فهم ابن عباس وتفسيره واستنباطاته، فهمة الأول كانت مصروفة إلى الحفظ والتبليغ وهمة الثاني إلى الاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها، وفي القرآن أمثلة كثيرة على مراتب الأعمال، (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) وآية (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء..)، وقد وضع علم الأصول قواعد مراتب الأعمال، فقسمها في واقع البشرية بالترتيب إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات، بل إن الضروريات لها مراتب فما تعلق منها بالدين ليس في التأكيد كتلك التي تتعلق بالنفس ولا ما يتعلق بالنفس كالذي يتعلق بالعقل، وعلى العامل في الحقل الدعوي أن يعرف درجات الأمر ودرجات النهي وأن ينزل كل ذلك منزلته بغير إفراط أو تفريط، ويرى المؤلف أن غياب الإحساس بالأولويات أدى إلى أخطاء كثيرة لدى العاملين في الحقل الدعوي، إذ أدى إلى انصرافهم عن العمل في الضروريات تجنباً للتفريط في الحاجيات أو التحسينيات وفي هذا خلل جلي.
التجديد في الدين
التجديد في الدين أمر أصيل والحديث المشهور يفيد: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها)، وعليه فالدين قابل للتجديد، وإذا لم يتجدد فمسؤولية المسلمين أن يجددوا، وقد اشتهر عن ابن القيم تعليقه على فصل في تغيير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والنيات والعادات، واعتباره أن ذلك جزء من رسالة الإسلام، على أنه لا تجديد في الدين بغير ضوابط، أهمها أن يكون ضمن القواعد الكلية للدين، فقاعدة لا ضرر ولا ضرار تعني أن المصلحة العامة مقدمة على المصالح الخاصة، وثانيها ألا تتعرض الأحكام القطعية الثابتة – وهي قليلة – إلى اي نقض أو معارضة.
يتبع
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.