في يومٍ ما، جلس الرسول حول صحابته، ومنهم عبدالله بن عمرو بن العاص، سأل أحد الحضور النبي: "أي المدينتين تُفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟"، فأجاب الرسول: "مدينة هرقل تفتح أولاً، (يعني القسطنطينية").
احتلّ هذا الحديث الشريف أهمية كبيرة في تغذية الفتوحات الإسلامية بمددٍ شرعي يُعطيها حُلمين كبيرين لإسقاط أكبر مدينتين عرفتهما أوروبا ومثلتا أهم معقلين للمسيحية طوال تاريخها، ولطالما اعتبرهما العرب مضرباً للأمثال في العز والحصانة.
ظفر العثمانيون بالشطر الأول من المجد بعدما نجحوا في فتح القسطنطينية ونَعِمَ أميرها محمد الفاتح بخلود أبدي في سجلات التاريخ كـ"فاتحٍ للقسطنطينية"، وهي ذات المكانة التي تبارَى ملوك الدول الإسلامية على محاولة الاقتراب منها عن طريق تدبير المحاولة تلو الأخرى لفتح ثاني المدينتين العظيمتين روما/ رومية.
وشهد العام 846م، أقوى محاولة إسلامية للاقتراب من العاصمة المسيحية الغربية، بعدما بلغت القوات الإسلامية الحي الفاتيكاني، واقترب جنودها من كنيستي "بطرس" و"بولس" الشهيرتين.
فما هي تفاصيل هذه المحاولة؟
البحر المتوسط الإسلامي
يقول عبدالمنعم ماجد في كتابه "الحاكم بأمر الله"، إنه في بدايات القرن التاسع الميلادي حقّقت القوات البحرية الإسلامية نجاحاتٍ مُتصاعدة في البحر المتوسط، فنجحت في غزو صقلية عام 827، كما استولت على صقلية عام 835، بالإضافة إلى اجتياح أجزاء من جنوب إيطاليا.
فيما يُضيف هنري بيرين في كتابه "تاريخ أوروبا في العصور الوسطى"، أنه خلال بداية القرن الميلادي العاشر شنَّ المسلمون الكثير من الغارات على السواحل الأوروبية المتاخمة بدايةً من جنوى وحتى برشلونة، لدرجة أنهم أقاموا لأنفسهم موقعاً عسكرياً في جبال الألب.
ويتابع عبدالمنعم أن الفتوحات الإسلامية المتتالية في الأراضي الإيطالية مكّنت العرب من الاقتراب رويداً رويداً من العاصمة ومن ثم السعي لتحقيق الحلم الأكبر، وهو محاولة غزو رومية (روما) والتي يسكنها البابا، رئيس النصرانية الغربية.
جرت هذه المحاولة في عهد دولة أسرة الأغالبة التي استقلّت بحُكم إفريقية عن الدولة العباسية منذ العام 800هـ، ووصلت جيوشها إلى روما عام 231هـ/846م، في ظِل إمارة أبي العباس محمد بن أبي عقال الأغلب (226هـ/841م – 242هـ/856م) خامس الأمراء الأغالبة.
الله يعاقبنا على فسادنا بالمسلمين
يقول تومي لانكيلا (Tommi Lankila) الباحث في تاريخ العصور الوسطي بإيطاليا في أطروحته "غارة المسلمين على روما عام 846″، إنه بدءاً من العام 667م شهد البحر الأبيض المتوسط الاشتباك الأول بين جيوش المسلمين وجيوش الروم، وبعد تجذّر الإمبراطورية الإسلامية في أراضي شمال إفريقيا بدايةً من القرن الثامن، أصبحت غاراتهم على الأراضي الأوروبية أكثر شيوعاً على الجُزر المجاورة للساحل الإيطالي كصقلية وسريدينا وكورسيكا.
وفي هذا المجال تسابقت الدول الإسلامية، التي وطّنت نفسها في إفريقية، مع الدولة الأموية في الأندلس على شنِّ الهجمات على جُزر البحر المتوسط للسيطرة على طُرُق التجارة البحرية.
ويذكر تومي أن مرجع "الكتاب البابوي Liber Pontificalis" المَعني بسِيَر الباباوات من القديس بطرس حتى القرن الخامس عشر، تعرّض لذِكر هذا الهجوم الإسلامي معتبراً إياه انتقاماً من الله للكنيسة على أيدي المسلمين (وصفهم الكتاب بـ"الوثنيين").
يحكي شكيب أرسلان في كتابه "تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا"، أن العرب استعانوا في مثل هذه الفتوحات بالبربر الذين استوطنوا في إفريقيا، وعُرفوا بالبأس وصعوبة المراس ومعاركهم الضارية ضد الرومانيين.
ويعتبر أرسلان أن توقيت اختيار العام 846م للقيام بهذه الغزوة الإسلامية لم يأتِ عبثاً، وإنما جاء تعبيراً دقيقاً عن شكل العلاقة المعقدة التي جمعت بين العالمين الإسلامي والمسيحي خلال هذه الفترة، ففي العام 840م تُوفي الملك الفرنسي لويس بن شارلمان والذي ناصب عبدالرحمن الداخل ملك الأندلس العداء، وأعلن مراراً رغبته في الإطاحة به والقضاء على وجود المسلمين في أوروبا.
يقول الملك لويس في إحدى رسائله التي بعثها للمتمردين على الحكم العربي: "بِاسم ربنا الإله وباسم مخلصنا يسوع المسيح، من لويس الإمبراطور السعيد بالنعمة الإلهية إلى الأساقفة والشعب في ماردة (مدينة تقع غرب إسبانيا)، قد اتصل بنا ما تقاسونه من العذاب من جهة الملك عبدالرحمن الذي لا يزال يرهقكم عسراً وبما أن هذا الملك البربري عدو لنا، كما هو عدو لكم، فإننا حاضرون للاشتراك معكم في قتاله، ومرادنا في هذا الصيف بعون الله تعالى أن نرسل جيشاً يكون حاضراً للعمل بإشارتكم".
يحكي أرسلان: لمّا مات الإمبراطور لويس سنة 840م وقع الخلاف بين أولاده، واغتنم المسلمون هذه الفرصة فدخلوا من مصب نهر الرون، واخترقوا مدينة آرل ونواحيها، وفي الوقت نفسه أغار موسى أمير تطيلة (مدينة أندلسية) في بلاد نابار وأوغل حتى بلغ أرض سردانة.
وخلال هذه الأيام ساءت أحوال فرنسا وكثرت الحروب الداخلية بين قطاعاتها كما تنازع على السُّلطة فيها أكثر من 3 ملوك، لهذا كانت الدولة الفرنسية أكثر من عاجزة عن نجدة جارتها إيطاليا ضد أي تحرك إسلامي على أراضيها مستغلة حالة الفوضى السياسية التي دفعت الأمراء المسيحيين للتنازع على الإمارة، ودفعت أحدهم للاستنجاد بالقوات الإسلامية في صقلية لمساعدته على تنصيبه حاكماً.
وهي الأوضاع المضطربة التي اعتبرها الأغالبة فرصةً لتحقيق الحُلم الأكبر واغتنام روما، التي فقدت خلال هذه الفترة الكثير من مجدها القديم، وتقلّص عدد سكانها إلى قرابة 30 ألفاً بسبب الحروب المتتالية وسوء أحوال الزراعة، ما قلّل كثيراً من قُدرة المدينة الأسطورية على تجييش قوة كبيرة تُدافع عنها.
جيوش المسلمين داخل الفاتيكان
يقول أندرو بوستوم (Andrew Bostom)، الكاتب الأمريكي المهتم بالتاريخ الإسلامي، في كتابه "ميراث الجهاد"، إنه طوال القرنين التاسع والعاشر لم تنقطع الغارات التي نفذها العرب والبربر على سواحل فرنسا وإيطاليا وصقلية، وبدءاً من القرن التاسع وقعت أعداد كبيرة من الغارات الإسلامية على جنوب ووسط إيطاليا، وعلى إثر هذه النجاحات أنشد الشاعر الصقلّي الشهير ابن حِمديس أبياتاً تتغنّى بالأمجاد العسكرية الإسلامية في إيطاليا في نابولي وكالابريا وباري.
يحكي "السجل البابوي the Papal chronicle"، عن مسلحين ذوي أصول إفريقية (بعض المصادر الأجنبية الأخرى وصفتهم بوضوح بأنهم "مسلمون مغاربة")، دشّنوا حملةً عسكرية ضد الفاتيكان، ويؤكد أنهم استبقوا هذه الخطوة بِاحتلال جزيرة "كورسيكا Corsica" القريبة من روما، والتي اتّخذها المسلمون قاعدةً لشنِّ الهجمات على الساحل الإيطالي، فيما زعمت كتابات رومية أخرى أن المغيرين العرب انطلقوا نحو روما من قاعدةٍ لهم في باليرمو، والتي تخضع لسيطرة الأغالبة منذ العام 831م.
هنا يشرح ماجد في كتابه بعض تفاصيل المحاولة الإسلامية الأجرأ لغزو عاصمة الإمبراطورية المسيحية الغربية، يقول: دخلوا (يقصد الجنود المسلمين) نهر التيبر واستولوا على كنائس القديسين بطرس وبولص، واضطر البابا ليون الرابع أن يختبئ، وبفضل هذا التوسع، أصبح البحر الأبيض بحيرة إسلامية، ولم تعد السفن المسيحية تستطيع السباحة فيه.
هنا يُوضِّح أندرو أن هذه الحملات كانت مجرد توسعات خاطفة سُرعان ما تنتهي على أيدي أصحابها، وليست حملات كبيرة تحمل خططاً منظمة للفتح والاستيطان كما فعل موسى بن نصير في إسبانيا وأسد بن الفرات في صقلية.
ويؤكد أندرو أن القوات الإسلامية امتنعت عن مهاجمة سور روما، واكتفت بالتعرّض لبازيليك القديس بطرس والقديس بولس، اللذين كانا في هذا الوقت خارج الأسوار.
لم تمتلك هذه الغزوة أي أغراض توسعية، ولم يسعَ من ورائها الملوك الأغالبة السيطرة على روما أو أسر البابا، وإنما سعت لتقويض النفوذ البابوي وضربه في أهم معاقله والخروج منها بأكبر الغنائم الممكنة كأكبر إظهار على أن السيطرة الإسلامية لا تقتصر على جنوب البحر الأبيض المتوسط، لكنها امتدت أيضاً إلى شماله.
وهو ما يُبرّر ما نجده في كتب التاريخ من أن القوات الإسلامية لم تصطحب معها أسلحة ثقيلة أو معدّات اقتحام تكفل لهما اجتياز الحصون السميكة التي تلفُّ العاصمة الرومانية، وإنما اكتفت بالأسلحة الخفيفة التي تعينها على أداء مهمتها المطلوبة بنجاح، فهاجمت الأحياء التي تماست مع حدود روما لكنها وقعت خارج السور، ومن ضمنها الحي الفاتيكاني، الذي اقتحمه المسلمون.
أتَى هذا النجاح الإسلامي الساحق والوهن الأوروبي الكبير، بالرغم من أن الكونت أديلفيرتوس Adelvertus حاكم جزيرة كورسيكا، حينها، حذّر روما من هجوم جيش المسلمين عليها والذي وصف عدده بـ"الهائل"، ووفقاً لكتاب "Liber Pontificalis"، تشكّلت القوة الإسلامية من 11 ألف رجل و500 حصان حملتهم 37 سفينة.
إلا أن تومي يلتمس للرومان العُذر في عدم اتخاذ أي إجراءات جديّة لمواجهة القوة الإسلامية بسبب حالة التوتر التي عاشوها خلال هذه الفترة، والتي نتج عنها تلقيهم العشرات من الإنذارات التي تتنبأ باقتحام المدينة العاصمة، وكلها يتضح كذبها في نهاية الأمر، ولهذا أبدى الرومان قدراً كبيراً من اللامبالاة عندما بلغهم التحذير، ولم يبدأوا في التحرّك إلا بعد فوات الأوان.
فبعدما أصبحت رايات جيوش المسلمين في مرمى الأبصار، اجتمع النبلاء الرومان خلف الأسوار الحصينة (بلغ ارتفاعها 12 متراً، وطولها 19 كيلومتراً، وحوت 381 برجاً وخندقاً مائياً)، وأرسلوا إلى كافة الدول المحيطة بهم طالبين منها المدد الفوري، وهذه المرة لم يستجب لهم أحد، وتحديداً فرنسا المنكفئة على مشاكلها الداخلية، فقرر الرومان الاكتفاء بالتحصّن وراء أسوارهم تاركين الساحة فارغة تماماً لجيوش المسلمين.
وعندما أصبحت الجحافل الإسلامية على بُعد كيلومترات من روما، أعلنت عاصمة أوروبا الغربية التعبئة القتالية، فلم تجد إلا وحدات لمقاتلين شعبويين من الحجاج والتجار، وليسوا من الجنود المحترفين، ولهذا حققت هذه القوات فشلاً ذريعاً حينما حاولت التصدّي لطلائع الجيش الأغالبيّ.
يقول تومي لانكيلا: أراد المغيرون أن يأخذوا أكبر غنائم ممكنة دون أن يُعرّضوا حياتهم للخطر، وكانت الغنائم الكبرى في المباني العملاقة التاريخية التي كانت تقع خارج أسوار المدينة، وبالتالي لم يكن هناك أي مبرر أمام القوات الإسلامية لتعريض نفسها للمزيد من الخطر ومهاجمة المدينة نفسها.
وعقب انتهاء هذه العمليات الهجومية وانسحاب جيوش الأغالبة، كان أول إجراء قامت به روما هو ضمَّ هذين المبنيين إلى الحرم الروماني بعد توسعة السور ليشملهما، كما أمرت ببعض الوحدات العسكرية التابعة لها بمحاولة تعقّب المسلمين لكنّها تلقت هزيمة مروّعة مكّنت القوة العربية من العودة إلى أراضيها بسلام بعد مسيرة جغرافية طالت مسافتها عن 300 كيلومتر ضمنت لنفسها مكاناً خالداً في التاريخ الإسلامي.
ويضيف ماجد في كتابه أنه في عهد دولة الفاطميين التي نشأت على أنقاض دولة الأغالبة دخلوا مع الروم في اشتباكات بحرية دامية أسفرت عن استيلاء الفاطميين على معظم جزر البحر المتوسط، إلا أنهم لم ينجحوا في الاقتراب من روما، ومات الحُلم الذي منّى الفاطميون أنفسهم به ليضمنوا لهم مكاناً خالداً في التاريخ الإسلامي وعاشوا وماتوا دون أن يُحققوه.
يقول بيرين: خلال هذه الفترة تتالت النكبات على المسيحيين الغربيين، وكانوا في مُنتهى الضعف الذي لم يسمح لهم بالتفكير في ردِّ الإهانة التي وقعت عليهم، وتقوقعوا مرعوبين على أنفسهم، وتركوا البحر لخصومهم (المسلمين)، ونستطيع القول إن الملاحة الغربية في البحر المتوسط انعدمت تماماً بعد الامتداد الإسلامي على جوانبه.
المصادر:
- كتاب "الحاكم بأمر الله الخليفة المُفترى عليه"، عبدالمنعم ماجد، ص 167.
- تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، هنري بين، ص 13.
- تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا، شكيب أرسلان، ص 285.
- "غارة المسلمين على روما عام 846، تومي لانيكا، ص 6.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.