في عام 2016، أجرت جامعة أكسفورد دراسة علمية تحت عنوان "هكذا تفوز باليورو بمساعدة بسيطة من علم الأعصاب"، ركزت الدراسة على دور لاعبي المنتخب الإسباني ونادي برشلونة سابقاً تشافي هيرنانديز وأندريس إنييستا في مساعدة منتخب إسبانيا في الفوز باليورو. قامت التجربة التي أجراها وأشرف عليها باحث علم الأعصاب مورتن إل كرينجلباخ على عمل اختبارات ذهنية وعصبية لكل من تشافي وإنييستا. وأوضح المقال القدرات الذهنية والعصبية التي يتمتع بها كلا اللاعبين في التعامل مع الضغط وقدرتهما الفائقة على معالجة كمية ضخمة من المعلومات والبيانات في أجزاء من الثانية.
وأبدى الباحثون في المقال المنشور في مركز أبحاث الجامعة العريقة استغرابهم الشديد من اختيار لاعبي كرة القدم على أسس بدنية في أغلب بقاع العالم. ويحاجج الباحثون بأن كرة القدم رياضة مبنية على علم الأعصاب وقدرة الدماغ على تحليل البيانات بسرعة شديدة وتحت الضغط. إذ ذكر في التقرير "يحتاج لاعبو كرة القدم الناجحون إلى معالجة كميات هائلة من المعلومات بسرعة تحت ضغط عقلي وجسدي شديد. يجب اتخاذ قرارات سريعة في فترة زمنية قصيرة جداً، وقمع المعلومات غير ذات الصلة والتكيف مع بيئة ديناميكية للغاية. يحتاج اللاعبون أيضاً إلى أن يكونوا مبدعين ودقيقين في اتخاذ تلك القرارات ليكونوا في المكان المناسب في الوقت المناسب وأن يضيفوا إلى أداء الفريق العام".
وأبدى المقال تخوفاً شديداً من أن الانتشار المتزايد لنظام اختيار اللاعبين المبني على القدرات البدنية سيفضي إلى اختفاء اللاعبين العباقرة من نوعية تشافي وإنييستا في المستقبل، رغم تمتعهم بقدرات فنية وذهنية جعلتهم متفوقين على غيرهم من اللاعبين أصحاب القوة البدنية الفائقة.
لكن قياس الذكاء على أرضية الملعب عملية صعبة ومعقدة للغاية، لكن علم النفس المعرفي طور طرقاً لتحليل وقياس ما يسمى "الوظائف التنفيذية"، وهي مجموعة من عمليات الدماغ التنظيمية المعقدة التي تنسق أعلى مستويات التفكير والعمل، خاصة في المواقف غير الروتينية أو غير الاعتيادية. من خلال هذا الاختبار يتم قياس القدرة على حل المشكلات، والتخطيط، والتسلسل المنطقي، والانتباه، والتثبيط، والاستفادة من التغذية الراجعة، وتعدد المهام، والمرونة المعرفية والقدرة على التعامل مع المستجدات.. بينت الأبحاث أن تلك الوظائف مرتبطة بالذكاء في اللعبة، وبعد اختبارات على عدد ضخم من لاعبي كرة القدم لم يتفوق أحد على تشافي وإنييستا.
تشافي بلا أرقام
تلك القدرات لا تقاس بالأرقام ولا تظهرها الإحصائيات ولن يخبرك بها محللو كرة القدم بعد انتهاء المباراة. لاعب خارق للعادة مثل تشافي هيرنانديز كان عبارة عن processor متجول في أرضية الميدان، معالج يحلل المواقف وتمركز اللاعبين ومكان الكرة بشكل سريع، ومن ثم يتخذ القرار السليم في أجزاء من الثانية.
البروفيسور النرويجي غير جوردت قرر البحث عن سبب دقة تمرير لاعبي خط الوسط العالية، مقارنة بالمهاجمين والمدافعين، عمل الرجل النرويجي على البحث شمل خلاله 250 لاعب كرة قدم محترفاً، وضعهم تحت المجهر وقام بدراستهم. ووجد علاقة بين دقة التمرير وبين معدل رفع اللاعب لرأسه قبل استلام الكرة، ووجد أن أكثر لاعب يرفع رأسه ويكشف الملعب بعينيه قبل استلام الكرة هو تشافي هيرنانديز بمعدل 0.82 ثانية/استلام، وهذا معدل مرتفع للغاية. الكشف أو الـ scan هي ميزة تشافي الخفية، ويتميز بها أكثر من بقية مبدعي خط الوسط، وتلك أيضاً خاصية لا تقاس بالأرقام ولا تكشفها الإحصائيات. لكنها توضح لك قدرة تشافي على تحليل المباراة وهو في قلبها لتسيير الأمور على النحو الأمثل له ولفريقه.
تشافي الذهبي
ومع ذلك، فإن إنجازات وإحصائيات تشافي كلاعب خط وسط هائلة وتجعله قادراً على كسب عديد من المواجهات والمقارنات مع الأساطير الآخرين في عالم كرة القدم. وتجعلنا مطمئنين وواثقين عندما نعتبر تشافي عبقري خط الوسط أو أحد أفضل لاعبي كرة القدم على الإطلاق. وذلك لذكائه، وقدراته الذهنية العالية جداً، وهو ما جعل الأسطورة الراحل يوهان كرويف يقول جملته الشهيرة: "كل شيء يبدأ من تشافي".
لذا أرى أن الجدل الدائر حول استحقاقه لمكان أساسي في تشكيلة "فرانس فوتبول" للأفضل في التاريخ جدل عقيم ولا يستحق النقاش بجدية، لأن المحاججين بعد استحقاقه يعتمدون على إحصائيات وبيانات قاصرة لا تكشف مدى جودة تشافي هيرنانديز الخارقة للعادة. ففي الجوانب الذهنية والذكاء التكتيكي، يتفوق تشافي بأميال عن منافسيه وربما لا ينافسه سوى البرغوث الأرجنتيني ليونيل ميسي ويتفوق عليه، لكن ذلك مجرد تقدير ورأي شخصي مني قد يحتمل الخطأ.
كل شيء يبدأ من تشافي، وكثيرة هي الأشياء التي انتهت من حيث انتهى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.