وصلت محل تصفيف الشعر (صالون الحلاقة) الذي هو في طريقي للمنزل بعد انتهاء يوم العمل، كان محل تصفيف شعر تركياً، لأن محلات تصفيف الشعر العربية تبعد عني كثيراً، خصوصاً أنها في منطقة وسط البلد المزدحمة التي يصعب فيها صف السيارة هناك. وقررت التوجه للمحل بعد الانتهاء من سماع المؤتمر الصحفي الذي عقدته حكومة ألمانيا الفيدرالية مع رؤساء حكومات ولايات ألمانيا والذي أعلن فيه تطبيق "إغلاق قاسٍ" في جميع أنحاء البلاد، ومنها محلات تصفيف الشعر، على أن يتم العمل به من أول يوم الخميس الموافق 16 ديسمبر/كانون الأول 2020، إلى تاريخ 10 يناير/كانون الثاني 2021 وذلك القرار قابل للتمديد.
إذاً لم يعد أمامي غير اليوم والغد للذهاب إلى محل تصفيف الشعر من أجل تقصير شعري الذي طال. وحيث إنني سوف أكون مشغولاً طيلة يوم غد، إذاً عجلت بالذهاب بعد العمل إلى هناك.
ذهبت إلى هناك وأنا متأكد بأنني سوف أجد أمامي زحاماً أمام محل تصفيف الشعر مثله مثل جميع محلات تصفيف الشعر ليس على مستوى مقاطعة هامبورغ فحسب، بل على مستوى ألمانيا كلها، لأن الجميع يسارع ويحرص على ارتياد محلات تصفيف الشعر خلال هذين اليومين قبل تطبيق الإغلاق.
وصلت هناك وأنا متردد خشية أن أقف في طابور انتظار طويل لا أطيقه وخصوصاً أن لديَّ مواعيد عمل من المنزل عبر برنامج الـ Home Office والخاصة بتوضيحات لأولياء الأمور عن الإجراءات التي يجب أن تتخذ وأسلوب عمل أطفالهم في المنزل من خلال برنامج التعليم المنزلي أو Homeschoolin.
حقيقة كانت المفاجأة أنني وجدت طابور انتظار أطول مما كنت أتوقع وخصوصاً أنهم لا يسمحون بالدخول إلا لمن عليه الدور ليجلس مباشرة أمام مصفف الشعر، فمحظور الجلوس في الداخل للانتظار لأكثر من شخصين، وقفت في الطابور برهة وأنا متردد محاولاً إقناع نفسي بالانتظار، ولكن العمل يناديني، حينها وعندما هممت أن أنصرف مُعرضاً عن الانتظار، فُتح باب المحل من قبل أحد العاملين طالباً أن يدخل مَن عليه الدور، وإذا بي أجد الشاب الواقف في مقدمة طابور الانتظار والذي عليه الدور يشير لي بأن أتقدم، حينها نظرت خلفي لعله يقصد شخصاً آخر يعرفه، ولكن أشار نحوي رجل على مقربة مني قائلاً لي: "تفضل… تقدم بالدخول".
حينها نظرت للواقفين في طابور الانتظار وأنا أمر بجانبهم عسى أن يعترض أي أحد منهم على أنني تخطيت دورهم، ولكنني لم أجد غير ابتسامة عريضة ارتسمت على وجوههم وكأنها علامة الرضا والقبول بتقدمي عنهم.
دخلت المحل وأخذت مكاني بالجلوس على أحد المقاعد إلى حين أن يأتي دوري بالجلوس أمام مصفف الشعر، كان يجلس بالداخل ثلاثة أشخاص غيري منتظرين دورهم، في حجرتين وفي كل حجرة شخصان.
رفعت رأسي عن جهاز التليفون الجوال والذي كنت أراجع فيه بريدي الإلكتروني والذي يحوي رسائل تتعلق بالعمل، على صوت مصفف الشعر وهو يشير لي بيده اتجاه كرسي تصفيف الشعر قائلاً لي تفضل، حينها نظرت له باستغراب مشيراً بيدى إلى الجالسين في الانتظار في الداخل قبلي لعسى أن يكون قد اختلط عليه الأمر، ولكن زاد استغرابي وذهولي عندما أشاروا إليّ بالموافقة بترحاب.
جلست أمام مصفف الشعر بعد أن وضحت له بأنني أرغب بأن تكون جوانب الرأس مقصوصة على الدرجة السابعة مع التدريج للأعلى، بعدها غرقت في التفكير واجتاحت رأسي أسئلة متعددة بعد أن سلمت رأسي لمصفف الشعر:
لماذا قام جميع الواقفين أمامي طيلة الوقت في طابور الانتظار بالدفع بي للدخول قبلهم ودون أن أطلب منهم؟ ثم تكرر ذلك في الداخل؟
فما السر وخصوصاً أنني لا أعرفهم ولا هم يعرفونني!
فلم أجد إلا تفسيراً واحداً: توقير رجل كبير والذي دبَّ في شعره المشيبُ مثلي.
ولكن ما قاموا به هو الأخلاق والقيمِ. إذاً من أين لهم تلك الصفات النادرة والتي قد لا تجدها إلا في المدينة الفاضلة في هذا العصر.
فلم أجد غير تفسير واحد أيضاً، ألا وهو أن الشعب التركي قد امتلك مشاعر العزة والكرامة عندما شعر بأنه ينتمي إلى قومية أصبح لها قيمة وكرامة بين دول العالم، يتبع دولة أصبحت تعتز بثقافتها وهويتها الإسلامية وتمتلك قرارها بين الأمم. فلا غرابة إذاً أن تتفجر بداخلهم المشاعر الإنسانية وتعلو بهم القيم الدينية والوطنية والقومية.
فتجد الصغير يوقر الكبير، والقوي يأخذ بيد الضعيف، والرحمة والحب والإخلاص تسود، والعمل بتعاليم الدين الإسلامي وجوهره هو الشامل بعد الوفاء بالعهود.
خرجت من محل تصفيف الشعر بعد أن دفعت الحساب شاكراً لهم مارّاً على الوقوف والذين هم نفس الوجوه والتي رأيتها سابقاً عند دخولي واقفة في طابور الانتظار مبتسماً لهم شاكراً بإيماءة خفيفة من رأسي.
سقطت دمعة خفيفة على وجهي عجزت عن كبحها عندما انصرفت عنهم مبتعداً تلفحني نسمة الهواء البارد تأثراً بهذا المشهد الإنساني الفريد، وبتلك المعاملة الراقية وبهذا التوقير الذي حظيت به، تمنيت حينها أن يسود ذلك في بلدي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.