في الشهر الماضي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مبادرة "تاريخية": تأسيس مجلس رسمي لأئمة المساجد من أجل تقنين أوضاعهم. لتبدأ الدولة العلمانية الفرنسية، التي بررت رقابتها على كل المظاهر العامة لما يعبر عن الهوية الإسلامية عملياً باسم العلمانية، في إعداد سجل رسمي للأئمة المسلمين.
وسوف يرسي المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، بالتعاون مع وزارة الداخلية، المعايير القانونية للممارسات الدينية لحوالي خمسة ملايين مسلم في فرنسا. وسيكون لزاماً على الأئمة التوقيع على "ميثاق القيم الجمهورية"، الذي يحتوي على أمرين محظورين تماماً على الأقل وهما: الإسلام السياسي، "والتدخل الأجنبي". وسيختفي التمويل الأجنبي الذي كان حتى يومنا هذا يوفر وسائل تمويل المساجد ولوازمها، بموافقة من الحكومة الفرنسية، من أجل نموذج جديد للإسلام: وهو الإسلام الفرنسي.
ويأمل ماكرون في النجاح في إحياء الوهم السياسي المتصور الذي فشل السابقون فيه، وهو نسخة من الإسلام يسهل تشكيلها سياسياً، وطيعة اجتماعياً. أي سيكون إسلاماً بلا أنياب، يمكنه أن يسوق أتباعه المعدمين إلى الجمهورية التي تشوه من هويتهم الدينية تشويهاً نظامياً، إذ يقول ثلثا مسلمي فرنسا إن دينهم يُنظر إليه باعتباره نقيصة.
وتسجيل الأئمة هو جزء من سعي ماكرون الأكبر لمواجهة ما يطلق هو عليه "الانفصالية الإسلاموية". لكن لماذا سيكون الإسلام الفرنسي طيعاً أكثر من غيره؟ الإسلام ليس ديناً مركزياً يمكنك السيطرة عليه بالتقرب لزعيم واحد، ولا يمكن أن يفترض المرء أن التقاليد الفرنسية الثورية والمنشقة لن ولم تؤثر على الممارسات المحلية للإسلام. إذ يولي التاريخ الفرنسي، وكذلك المبادئ الإسلامية، أولوية كبرى للعدالة الاجتماعية.
لكن هناك أكثر من شيء صغير مثير للسخرية في هذا الاقتراح الأخير. فالأئمة هم من يشرفون على إقامة الشعائر، بينما يقدم علماء الدين الجوهر الأخلاقي للدين، ولكن لا توجد أي خطط لإضفاء "صفة رسمية" عليهم. ويزيد على ذلك أن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية نفسه مكون من اتحادات تتلقى تمويلاً أجنبياً، وعلى الرغم من تأسيسه على يد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في عام 2003 ليكون وسيطاً بين مجتمعات المسلمين في فرنسا وبين الحكومة، فقد عانى المجلس من تساؤلات حول شرعيته.
ولم يشارك 1,100 مسجد من أصل 2,500 مسجد في فرنسا في الانتخابات الأخيرة للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وبغض النظر عن محاولة ماكرون للسيطرة على زمام الأمور، فسوف يكون المسلمون الذين يبحثون عن الإرشاد الديني بعيداً عن المجلس قادرين تماماً على فعل ذلك.
ماكرون يستعرض
مثلما أشار الإمام الفرنسي طارق أوبرو، فإن الاتحادات التي تشكل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية هي منظمات علمانية وليست دينية الطابع، فما الذي يعرفونه عن تفقيه الأئمة في علوم الدين؟ والأسوأ من ذلك، ما هي نسخة الإسلام التي يريدونها نسخةً "رسمية"؟ هل هي النسخة التي ستمنحها لهم الحكومات الاستبدادية الأجنبية التي تمولهم؟ وأي نوع من الإسلام الفرنسي سيكون هذا؟
هل سنرى تكراراً لمبادرة الرئيس السابق فرانسوا هولاند في عام 2015، عندما أرسل الأئمة الفرنسيين لتلقي تدريبات في المغرب ليعودوا "بالإسلام الفرنسي" إلى أرض الوطن؟ يبدو أن الشطر الأكبر من هذا المشهد استعراضي مصمم لطمأنة الناخبين أن ماكرون يسيطر على المشكلة. لكن ما هي تحديداً المشكلة من وجهة نظره؟
إذا أراد الرئيس حقاً أن يتبني "إسلاماً فرنسياً"، وهو أمر سيرحب به الكثير من المسلمين الفرنسيين بلا شك، فربما من الضروري إشراك المسلمين الفرنسيين بدلاً من إقصائهم والتعامل مع منظماتهم الدينية باعتبارها مصدر تهديد أمني.
إن فكرة الجمهورية الفرنسية التي تتعرض لهجوم أيديولوجي من القلة المسلمة العنيفة ليست سوى خيال في رأس اليمين المتشدد، ومع ذلك رضخ ماكرون لهذه الرؤية. وتحولت الآن أسطورة صراع الحضارات، التي سوقت لها الجبهة الوطنية لفترة طويلة، إلى سياسة بعد أن تبناها الليبراليون المتنافسون على الأصوات.
وتذكرنا نظرية "الانفصالية الإسلامية" بسياسة المحافظين الجدد المعيبة للغاية في مواجهة الإرهاب، التي طُرحت في المملكة المتحدة عام 2010. وأشارت نظرية "السير الناقل" إلى الأيديولوجية باعتبارها "المؤشر الأساسي للتشدد العنيف". وكشفت مذكرة مسربة لمجلس الوزراء وقتها زيف هذه النظرية، إذ ورد فيها أنهم "أعطوا للعوامل الأيديولوجية حجماً أكبر من حجمها". ومع ذلك، لم يقتصر الأمر فقط على ظهور النظرية ذاتها في استراتيجية المنع الجدلية للغاية في بريطانيا، لكن يبدو أن هناك نسخة فرنسية من هذه النظرية المعيبة يرتكز عليها مشروع قانون ماكرون الأخير بشأن الانفصالية الإسلامية.
تبرير الإرهاب
أحد الجوانب المقلقة أكثر لمشروع القانون هذا، الذي يهدف لتحرير الإسلام في فرنسا من "التأثيرات الأجنبية"، هو أن الأفراد المدانين "بتبرير الإرهاب" سيُضافون تلقائياً إلى قائمة مراقبة الإرهاب. وباعتبار أن مئات الأشخاص من بينهم أطفال سنهم 10 سنوات قد خضعوا لتحقيق "تبرير الإرهاب"، فإن مشروع القانون هذا الذي يخاطر بتحويل جيل كامل من المسلمين إلى مجرمين -ممن عبروا عن معارضتهم، أو تمردوا بأفعال صبيانية لا ضرر منها مثل رفض خلع القبعة أو سماعات الأذن خلال دقيقة حداد- ربما تكون له آثار تقلب الأمور رأساً على عقب.
كيف لنا أن نصدق أن هذا من شأنه تقليل الاستياء والغضب من الدولة وتحسين الأمن؟
من المفترض أيضاً، وفقاً لمشروع القانون، أن تخضع مؤسسات المجتمع المدني الفرنسي بداية من المساجد وحتى المنظمات الرياضية لسيطرة حكومية أشد، إلى جانب إعطاء السلطات المحلية حرية أكبر في إغلاقها بناء على تصرفات أحد أعضائها، بغض النظر عما إذا كان يتولى منصب سلطة في هياكل هذه المنظمة أم لا.
وتحل الحكومة منظمات المجتمع المدني بالفعل بموجب حكم قضائي، مثل جمعية BarakaCity الإسلامية البارزة، وجماعة Collective Against Islamophobia الحقوقية المعروفة التي تناهض الإسلاموفوبيا، لدرجة أن وزير الداخلية جيرالد دارمانين وصفهم بأنهم "أعداء الجمهورية". وقد فعل هذا دون أي دليل على سلوك غير قانوني، مرسلاً تحذيراً صارخاً للمسلمين الفرنسيين الذين يسعون لتأكيد حقوقهم. وقد نددت منظمة العفو الدولية بعمليات الإغلاق ووصفتها بأنها "تقوض حرية التعبير وتكوين الجمعيات".
ركيزة الهوية الفرنسية
يفرض مبدأ العلمانية في الدستور الفرنسي حيادية دينية صارمة على كل من الدولة والخدمات العامة، وهو ما يمثل ركيزة الهوية الفرنسية. لكن مشروع القانون الجديد يقترح تعديل هذه الركيزة الأساسية، للتحوّل من الحماية القانونية من الدولة، إلى أحد أشكال الإكراه السياسي.
وتواجه فرنسا تهديداً إرهابياً بلا شك، لكن الإجراءات الحالية تخاطر بكل أسس الجمهورية، بينما ترسم إطاراً رسمياً للعداء ضد المسلمين. وقد يكون إرث ماكرون هو وضع هذا الأمر في صورة قانون.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع The Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.