اندلع من جديد التوتر في شرق المتوسط، واتضح كما كان التوقع من قبل، أن التهدئة لم يكن القصد منها سوى استجماع الأنفاس، وأخذ مسافة من الزمن لاستيعاب الانتصارات التي حققتها تركيا في ثلاثة محاور: ليبيا، وشرق المتوسط وأذربيجان، وإعادة تقييم السياسة الفرنسية، التي ارتبكت أخطاء قاتلة، في الداخل والخارج، استثمرت من قبل تركيا لإحراز تقدم مهم في سياستها في المنطقة.
الديناميات التي تجري على الأرض، لاسيما منها اجتماع الاتحاد الأوربي، واستباق اللقاء بإطلاق تهديدات تستهدف تركيا، تبعث بإشارات مضللة، وتصور تركيا كما لو كانت في وضعية غير محسود عليها، إذ يقرأ البعض منها، إمكان فرض عقوبات اقتصادية صارمة في وجه تركيا، ويقرأ البعض الآخر تحركات فرنسا في أكثر من محور، كما ولو كانت استعادة منها للمبادرة، ونجاحاً منها في وضع تركيا في الركن الضيق.
والواقع أن هذه الافتراضات ينبغي أن تقرأ خارج نطاق التصريحات، أو نطاق مشاهدة مبادرات الفاعلين في محور الصراع، فالأمر في نهاية المطاف يتعلق بمصالح حقيقية وبأوراق ضغط، يصعب إبطال مفعولها في عملية إدارة الصراع.
فالاتحاد الأوروبي، إلى اليوم، لم ينجح في أن يضمن وحدة الموقف، بسبب اختلاف الرؤية الألمانية عن نظيرتها الفرنسية، فالمصالح الحيوية التي تجمع ألمانيا بتركيا، فضلاً عن وجودها في منطقة التماس الخطيرة، باعتبارها أول متضرر، إذا اضطرت تركيا إلى فتح حدودها لهجرة اللاجئين السوريين إلى اليونان، كل ذلك يدفع إلى أن يكون لألمانيا رؤية خاصة تنحاز لمصالحها وأمنها القومي.
والولايات المتحدة الأمريكية توجد اليوم خارج رقعة الصراع، وسياسة ترامب التي انتهجها مع تركيا توحي بوجود مقايضة بين الطرفين، بمقتضاها يتم إدارة العلاقة الاستراتيجية بين أمريكا وتركيا في أكثر من ملف، لاسيما الملف السوري، ولا يمكن توقع حدوث تغير في هذه السياسة إلا في عهد الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن، الذي تميل أجندته لخفض التوتر مع إيران، والضغط على تركيا وحصارها في المنطقة.
فرنسا التي تحركت في ثلاثة محاور، لم تنجح في إحراز تقدم يصل إلى حد قلب معادلة الصراع، فرغم نجاحها في تقريب جزء من مكونات حكومة الوفاق (زيارة رئيس مجلس الدولة ووزير الداخلية الليبي لباريس)، ومحاولة إبرام اتفاقات سياسية وعسكرية مع مصر عند زيارة السيسي الأخيرة إلى باريس، فضلاً عن تحركها داخل أروقة الاتحاد الأوربي ودفعه لإنتاج سياسة تصعيدية تجاه تركيا، إلا أن عائدات هذه السياسة بقيت في الحدود الدنيا، وذلك، لأن وضع العلاقات الليبية التركية محكوم باتفاق أمني وعسكري، ورجحان الوضع العسكري لفائدة مجلس الدولة، إنما تم بدعم تركي، كما أن التحدي الذي يشكله الجنرال حفتر يدفع ليبيا إلى الارتهان أكثر إلى تركيا.
أما علاقة فرنسا بمصر فلا تعدو أن تكون ترسيماً لوضع كان قائماً من قبل، فلم تحقق فرنسا من خلاله شيئاً جديداً سوى تبييض صورة نظام سياسي ينتهك حقوق الإنسان، والمسّ بالصورة الحقوقية لفرنسا، التي أصبحت تصرح علناً بأن قضية حقوق الإنسان لم تعد شرطاً في سياساتها الخارجية، وأن مطلب الأمن ومواجهة الإرهاب صار عندها أولوية تسبق أولوية حقوق الإنسان. أما تحركها في الاتحاد الأوروبي فلم ينجح سوى في إحراز تقدم رمزي، تمثل في شكل تصريحات تصعيدية ضد تركيا، وتلويح باستعمال ورقة العقوبات الاقتصادية.
تركيا إلى الآن لم تغير استراتيجيتها، فقد خرجت منتصرة في ثلاث معارك استراتيجية، وتحافظ على نفس تكتيكاتها، التي تعتمد التمسك بحقها في تحريك سفنها في التنقيب على مصادر الطاقة من جهة، والاستجابة للوساطة الألمانية لخفض التوتر من جهة ثانية، والالتزام بالحرف بالأجندة الزمنية للاتفاقات المبرمة برعاية ألمانية، ثم العودة مرة أخرى إلى تكتيك تحريك السفن، عند نهاية المدة، ومواجهة التصريحات الفرنسية أو الأوروبية بتصريحات مثيلة، تجمع بين خطاب التصعيد وخطاب الدعوة للحوار.
ليس ثمة في الأفق سيناريو جديد يمكن توقعه، فالديناميات الجديدة، رغم خطاب التصعيد، لا ترتفع لدرجة تغيير قواعد الاشتباك، فلا زالت تركيا تملك ورقة فتح الحدود في وجه المهاجرين إلى أوروبا، ولا زالت تملك ورقة الحضور الأمني والعسكري في ليبيا، ولا زالت فرنسا على تنسيقها مع مصر، دون أن يكون لهما ورقة قوية في الميدان في ليبيا. فورقة القبائل، التي كان يعول عليها، لم تثمر شيئاً، وورقة حفتر هي الأخرى، أصبحت أسوأ ورقة يمكن استعمالها؛ لأنها ستعطي الفرصة لإشعال الميدان العسكري من جديد، وخسارة المكسب الجزئي الذي حققته فرنسا من تقريب جزء من حكومة الوفاق، وإتاحة الفرصة لتغيير ميداني، يصعب معه تصور مستقبل لورقة عقيلة صالح، كما أن سياسة ألمانيا ورؤيتها الاستراتيجية في المنطقة لم تتغير، فلا زالت تحتفظ برؤيتها الخاصة في دعم حوار مباشر بين تركيا واليونان يمكّن من حل للمشكلة، من غير أن تضطر أوروبا لمواجهة المجهول، خاصة أن ألمانيا تعلم أن القيادة التركية جادة في تحريك أوراقها إن افتقدت أوروبا لصوت العقل والحكمة.
في المحصلة، لا يمكن أن نتصور في المستقبل القريب سوى إعادة نفس السيناريو السابق، أي الإبقاء على جبهة التصعيد مفتوحة، مع فشل للاتحاد الأوروبي في سن عقوبات اقتصادية ضد تركيا، ودور ألماني مستأنف لدعوة الطرفين تركيا واليونان لحوار مباشر، وتصعيد مستمر بين تركيا وفرنسا، ولجوء كل طرف منهما إلى إنتاج تكتيكات جديدة لتعزيز الموقف على الأرض، وإنضاج الشروط لتغيير قواعد الاشتباك إلى أن تأتي إدارة جو بايدن، ويدخل الموقف الأمريكي على الخط وتتعدل الخارطة نسبياً.
لكن، إلى ذلك الحين لا يمكن أن يتوقع شيء جديد، سوى استمرار الحالة على ما هي عليه، وتراوح الوضعية بين التصعيد، وبين البحث عن خيارات للحوار، مع ما يتخلل ذلك من تكتيكات مناسبة لكل مرحلة، مع دور ألماني متجدد لدعوة الطرفين للحوار، وسعي فرنسي لامتلاك مساحة أكبر للتحرك لمحاصرة تركيا، وحرص تركي على تحصين قواعد اللعبة ومنعها من الانزياح ضداً على مصلحتها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.