تتجدد الذكرى السنوية للانتفاضة الفلسطينية الأولى (9 ديسمبر/كانون الأول 1987)، "انتفاضة الحجارة"، التي كانت الحجارة هي وسيلة المقاومة التي استخدمها أبطال فلسطين في الدفاع عن أرضهم ووطنهم ضد العدو الإسرائيلي المحتل المدعوم بالأسلحة الحديثة من دول العالم الغربي، خصوصاً الولايات المتحدة.
شكلت الانتفاضة حدثاً كبيراً في تاريخ المقاومة الفلسطينية، لأنها انتفاضة الداخل الفلسطيني التي نتج عنها بعد ذلك عديد من الأمور المهمة، ويعتبر كثيرون أن "اتفاق أوسلو"؛ ومن ثم الحكم الذاتي في جزء من الضفة الغربية وقطاع غزة ووجود "السلطة الوطنية الفلسطينية"، هو أحد مخرجات تلك الانتفاضة.
الحقيقة أن "أوسلو" كانت نقطة سيئة في تاريخ احتلال فلسطين عند تحليله من زوايا عديدة، ليس أقلها أنه أعطى الذريعة للاحتلال الإسرائيلي للتنصل من قرارات الأمم المتحدة بخصوص القضية الفلسطينية وأهمها قرار 242 الصادر عام 1967 والذي يدعو إلى انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي التي احتلتها عام 1967 بعد حرب الأيام الستة، وهذا القرار كان بموافقة الولايات المتحدة.
بدأت شعلة الانتفاضة بعد حادثة الدهس التي قام بها سائق إسرائيلي والتي نتج عنها استشهاد أربعة عمال فلسطينيين على حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة، وامتدت المواجهات بداية من مخيم جباليا شمال القطاع وانتشرت لتشمل قطاع غزة والضفة الغربية. وإذا كانت حادثة الدهس الشرارة، فإنها لم تكن الوحيدة، فقد كانت الممارسات العنصرية اليومية للمحتل تجاه الأهل في فلسطين أكبر من أن تُحتمل، حتى وصلت لحظة الانفجار.
لم يمتلك الشبان الفلسطينيون أكثر من الحجارة والإرادة والإيمان بقضيتهم في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية التي استخدمت منتهى العنف بأوامر وزير الدفاع رابين، حيث اشتهرت صور جنوده وهم يكسرون عظام الشبان العزل، وتم استخدام الرصاص الحي وقتل وجرح آلاف الفلسطينيين، ووصل عدد الشهداء إلى قرابة ألف ومئتي شهيد وعشرات الألوف من المصابين، وتخلل الانتفاضة اعتقال عشرات الآلاف من الشبان الفلسطينيين.
من ميزات انتفاضة الحجارة أنها كانت شعبية تلقائية بلا تخطيط مسبق، ولم تكن فيها فصائل، إنما عبَّرت عن إرادة شعب حر يبحث عن حريته حتى لو كان السبيل إليها الاستشهاد، وخلال الانتفاضة تشكلت التنظيمات الشعبية القيادية للانتفاضة من رحم الانتفاضة نفسها.
شكَّلت انتفاضة الحجارة ضغطاً عالمياً كبيراً على الاحتلال الإسرائيلي، حيث كانت صور وفيديوهات الممارسات الوحشية للمحتل، من تعذيب وقتل، تنتشر يومياً في وسائل الإعلام العالمية، ورغم إظهار العدو عدم المبالاة تجاه ذلك وزيادة الدعم الأمريكي للكيان، فإن ذلك لا يُخفي حقيقة الضغط الذي نتج عن الانتفاضة وإيصالها قضية احتلال فلسطين وفجور المحتل إلى ضمير شعوب العالم الذين عرف عديد منهم عن القضية الفلسطينية من خلال انتفاضة الحجارة.
استمرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى ست سنوات وامتدت ما بين 8 ديسمبر/كانون الأول 1987 و13 سبتمبر/أيلول 1993، وانتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، ولكن اليهود كعادتهم في التنصل من كل الاتفاقيات، فعادت الثورة الفلسطينية من جديد في نهاية عام 2000 واستمرت حتى عام 2005 فيما أطلِقَ عليها الثورة الفلسطينية الثانية التي جاءت بعد الزيارة الاستفزازية التي قام بها أرئيل شارون للمسجد الأقصى.
ومع تجدد ذكريات الانتفاضة الفلسطينية مع سلسلة اتفاقيات التطبيع وتغيير جذري في موازين القوى وسياسة الدول العربية تجاه المحتل الإسرائيلي ومحاولات طمس وتغيير الحقائق والثوابت التاريخية، يجد الإنسان الفلسطيني نفسه أمام معركة من نوع جديد، يتمسك من خلالها بهويته التاريخية التي تحاول إسرائيل طمسها؛ بل سرقتها، فكثير من الموروث الشعبي الفلسطيني من طريقة اللبس والأكل والعادات، أصبح يتم الترويج له كجزء من الهوية الإسرائيلية للكيان المحتل!
مما ينبغي أن يكون أحد أهم مخرجات انتفاضة الحجارة هو أن ترتكز القوى الوطنية الفلسطينية في قوتها على الشعب الفلسطيني الذي استطاع أن يجعل القضية الفلسطينية محور الاهتمام اليومي في وسائل الإعلام بكل المعمورة، وهذه القوة الحقيقية لم تفعّل لغاية الآن، وفشلت عشرات المحاولات التفاوضية مع المحتل، لأنها لم ترتكز على مخرجات الانتفاضة؛ بل إنها مع الأسف قامت بقمع الانتفاضة نيابة عن العدو المحتل!
ومن أهم الممارسات الإسرائيلية التي كشفتها الانتفاضة، أساليب القمع المتوحشة ضد الفلسطينيين، وقضايا المعتقلين والاستيطان وسياسة الإبعاد عن فلسطين ومنع البعض من السفر، واجراءات المعابر، ونظام الضرائب الظالم، وغيرها من وسائل الاحتلال في ترسيخ الاحتلال.
زادت الانتفاضة الفلسطينية "انتفاضة الحجارة" من وعي الشعب الفلسطيني وجرأته في مواجهة المحتل، الذي رغم إنفاقه مليارات الدولارات لتثبيت كيانه الهش، فإنه يدرك جيداً أن لا مستقبل له وسط هذا الشعب الفلسطيني صاحب الحق في أرضه ووطنه، وكما قام من دون ترتيب مسبق، قبل 33 عاماً، بثورة أذهلت العالم، فإنه قادر من جديد على أن يصنع الحدث، ومن رحم المعاناة تولد الثورات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.