لا بد أن المشاركين في مؤتمر الأمن الإقليمي بالمنامة نهاية الأسبوع قد فوجئوا برؤية رئيس المخابرات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل يطلق النار في جميع الاتجاهات، معتبرين أنه لا يُسمح لأي سعودي بالحديث كما يرى هو في الوقت الحاضر، حتى وإن كان أميراً خاصةً في ظل الأجواء التي خلقها ولي العهد.
وفي الواقع، ربما يكون البعض قد سخط تماماً عندما ألقى السفير السابق المخضرم لدى المملكة المتحدة والولايات المتحدة محاضرة عن عُمان المجاورة حول التدخل الأجنبي، ووصف إسرائيل بأنها قوة "استعمارية غربية" تسجن الفلسطينيين في معسكرات الاعتقال.
وبغض النظر عما إذا كان الأمير تركي مخطئاً بشأن عمان أو محقاً بشأن إسرائيل، فإن لهجة وتوقيت توبيخه استفزا وزيري خارجية عمان وإسرائيل اللذين كانا من الحضور، وأبديا بعض علامات الاستفهام والتعجب حول تماسك واتساق السياسة الخارجية السعودية.
ففي النهاية، كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد استضاف قبل أسبوع واحد فقط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى جانب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في مدينة نيوم الساحلية الجديدة على البحر الأحمر.
وقبل شهرٍ فقط، انتقد الأمير بندر بن سلطان، رئيس المخابرات السعودية السابق والسفير السابق في الولايات المتحدة، القيادة الفلسطينية لإدانتها دول الخليج التي قررت تطبيع العلاقات مع إسرائيل!
ومما يزيد الارتباك أن الأمراء وأبناءهم يتمتعون أو ما زالوا بمكانة ملكية وثراء، في الوقت الذي يفقد فيه العديد من أبناء عمومتهم هذه النعمة… على نطاق واسع.
وإذا كان الأمير تركي، كما نُقل، قريباً بالفعل من الملك سلمان ويردد مشاعره؛ فهل يعني ذلك كما يزعم البعض أن الملك على خلاف مع ولي عهده؟
أم أن الأب والابن متفقان، لكنهما يضطلعان بأدوار مختلفة، حيث يعبر الملك والوفد المرافق له عن السياسة الرسمية، ويعمل ولي العهد وزمرته من وراء الكواليس؟
أجد أن هذا الاحتمال الأخير يبدو معقولاً أكثر.
وهذا لأنه من الصعب تصديق أن الملك وولي عهده على خلاف في الحقيقة بشأن أي شيء مهم، وأنهما يعرضان خلافهما عمداً وعلناً ليراه الأصدقاء والخصوم.
وإن كان شيءٌ قد حدث، فهو أن علاقتهما قد تعززت على مدى سنوات الاختبار الست الماضية في مواجهة التحديات المتزايدة، كإخفاقات الحرب على اليمن وأزمة الخليج ومقتل جمال خاشقجي والعديد من التحديات الأخرى.
فبحسب سرد بن هوبارد، رئيس مكتب صحيفة New York Times الأمريكية ببيروت، للأحداث في كتابه "صعود محمد سلمان إلى السلطة MBS: The Rise to Power of Mohammed bin Salman"، كان الملك من أعظم المعجبين بابنه منذ البداية. ما مكنه من أن يصبح الحاكم الفعلي للمملكة. وقد ساعد محمد بن سلمان نصيحة والدته بملازمة والده منذ أن كان عمره 16 عاماً، خاصةً بعد الوفاة المفاجئة لاثنين من إخوته غير الأشقاء الأكبر.
وأظن أن نتنياهو قد أغضب كلا الرجلين لتسريبه خبر رحلته السرية إلى المملكة العربية السعودية، في محاولته الأخيرة لإجبار المملكة على التحدث عن علاقاتهما الدافئة، وبالتالي تحسين وضعه في الداخل والخارج.
ولا بد أن كلام نتنياهو المتعجرف كان مزعجاً ومحرجاً بشكل خاص للنظام الملكي، الذي يقال إنه تحرك لإلغاء زيارة سرية قادمة لرئيس المخابرات الإسرائيلية.
لكن لا يخدعنك ذلك، فما تزال المملكة العربية السعودية حريصة على تحسين علاقاتها الأمنية مع إسرائيل لاحتواء إيران، ولكن دون تطبيع علني للعلاقات. فمثل هذه الخطوة قد تثير رد فعل عنيف داخل المملكة وجزء من العالم الإسلامي.
فعلى عكس جيرانها الأصغر، لدى المملكة الكثير لتخسره من خيانتها العلنية للقضية الفلسطينية.
ومع هزيمة الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، خسرت الرياض أقوى حليف لها في البيت الأبيض. وأصبح النظام الملكي مضطراً الآن إلى السير بحذر، والتراجع عن بعض أخطائه، وتجنب أي خطوات جديدة محفوفة بالمخاطر قبل تنصيب إدارة أقل وداً في الشهر المقبل.
فقد أوضح بايدن بالفعل أنه سيلغي الكثير من استرضاءات ترامب للمملكة العربية السعودية، وسياساته العدائية تجاه إيران.
وهذا يفسر مبادرات الرياض الأخيرة تجاه تركيا، بعد أكثر من عامين من العداء، ومحاولاتها الأحرص لحل الأزمة الخليجية مع قطر. وهو ما قد يؤدي إلى استعادة العلاقات خلال قمة دول مجلس التعاون الخليجي في وقت لاحق من هذا الشهر.
والشيء نفسه ينطبق على المحاولات المزعومة لإنهاء الحرب الكارثية في اليمن. فالتقارير التي تتحدث عن محاولة الرياض التعجيل بتسوية الحرب، بما في ذلك إطلاق "إعلان مشترك" بين الطرفين المتناحرين من اليمنيين، ستثبت -إذا كانت جدية- أنها خطوة في الاتجاه الصحيح.
وينطبق الشيء نفسه على تدخل السعودية الأخير بالعراق. فبعد سنوات من ازدراء بغداد، أرسلت الرياض وفداً رفيع المستوى إلى العاصمة العراقية في وقت سابق من الأسبوع الجاري. وفي الشهر الماضي، فتحت الرياض معبر عرعر الحدودي للتجارة مع العراق لأول مرة منذ 30 عاماً.
وعبر اتخاذ هذه الخطوات وغيرها، يبدو أن المملكة العربية السعودية حريصة على إظهار الاستعداد والقدرة على التصرف بشكل مستقل ودون تدخل أجنبي، لكنها في الواقع حريصة على التحرك بسرعة لاستباق وتهدئة الضغط الأمريكي المحتمل في المستقبل.
فبعد إفلاته بذكاء مع كل ما يريده تقريباً من إدارة ترامب، بفضل سذاجة مبعوثها جاريد كوشنر إلى حد كبير، يجب على محمد بن سلمان الآن مواجهة الواقع الجديد في كل من واشنطن والمنطقة.
لقد انتهى شهر العسل، وحان الوقت لمواجهة المكاره والتعامل مع العواقب.
– هذا الموضوع مترجم عن النسخة الإنجليزية من شبكة الجزيرة القطرية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.