ظلت العلاقة الفريدة والغريبة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل موضع تساؤلات وإجابات مختلفة، فهي علاقة استثنائية، أو نسيج وحدها، بين الدول، إذ تطال مختلف مجالات الحياة، وتشمل المجتمع في كلا البلدين. والأهم، أو اللافت، في هذه العلاقة أن إسرائيل تبدو عبئاً حقيقياً على الولايات المتحدة، من النواحي: السياسية والاقتصادية، وحتى لجهة مكانتها وصدقيتها في العالم، في حين أنها تعتبر مكسباً خالصاً لإسرائيل، التي تتمتع بضمانة الولايات المتحدة لأمنها ولتفوقها الاستراتيجي، على دول المنطقة، في المجالات: العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية. كما أنها تتمتع بتغطية الولايات المتحدة، التي باتت تهيمن كقوة وحيدة على العلاقات الدولية، لسياساتها العدوانية والاستيطانية والاحتلالية والعنصرية، هذا إضافة إلى الدعم السخي الذي تغدقه عليها الولايات المتحدة سنوياً، بطريقة أو بأخرى، ويقدر بحوالي 3 ـ 5 مليارات من الدولارات.
المفارقة في هذه العلاقة تتجلى، أيضاً، في واقع أن إسرائيل دولة صغيرة جداً وهي بعيدة عن الولايات المتحدة، ولا يزيد عدد سكانها عن بضعة ملايين، ويبلغ ناتجها السنوي حوالي 400 مليار دولار، في حين أن الولايات المتحدة دولة كبيرة وقوية بالمقاييس الجغرافية والسكانية والاقتصادية والتكنولوجية.
ثمة مفارقة أخرى وهي تتمثل بواقع أن مصالح الولايات المتحدة في العالم العربي هي أهم بكثير من مصالحها في إسرائيل، ففي العالم العربي كتلة بشرية تناهز 350 مليون نسمة، وفيه مكمن الثروة النفطية الحيوية جداً للاقتصاد العالمي، وهو يقع في موقع استراتيجي فائق الأهمية للعلاقات الدولية، في امتداداته بين القارات الثلاث، وبين الحضارات الأوروبية والأفريقية والآسيوية.
لكن ما يلفت الانتباه أنه برغم من كل الميزات، التي هي لصالح العالم العربي وليست لصالح إسرائيل، أن الولايات المتحدة تصرّ على محاباة إسرائيل، عبر دعمها وتغطية سياساتها بشكل مطلق! وفي تفسير ذلك تباينت اجتهادات المحللين والسياسيين، فمنهم من فسّر هذا الأمر بتعبيرات المؤامرة الخارجية، الرامية للسيطرة على الوطن العربي وتطويعه للإملاءات والمصالح الأمريكية. أيضاً، منهم من فسره من وجهة نظر صراعات الحرب الباردة، إبان التصارع بين الاتحاد السوفييتي (السابق) والولايات المتحدة، ومنهم من فسره بقوة اللوبي الصهيوني، معتبراً أن الولايات المتحدة مسيرة وليست مخيّرة، وهكذا! الواقع أن كل واحد من هذه التفسيرات يعجز عن شرح هذه الظاهرة، وملاحظة التغيرات اللاحقة بها. وبرغم من أنه ثمة حقيقة في هذه التحليلات فإنها تقصر، أيضاً، عن تحليل هذه الظاهرة بشكل موضوعي وتاريخي وشامل.
في شأن التفسير بعقلية (المؤامرة)، مثلاً، فإنه وطوال الفترة الماضية، ولاسيما فترة الحرب الباردة، تمتّعت الولايات المتحدة بعلاقات ممتازة مع العديد من الحكومات العربية، وعلى الدوام كانت مصالحها مصونة ومضمونة في معظم البلدان العربية، ولكنها مع ذلك لم تقدم شيئاً لهذه الحكومات على صعيد لجم عدوانية إسرائيل، التي تسبّب حرجاً لها إزاء شعوبها. كذلك وبرغم إدراك أهمية المصالح الأمريكية، وإدراك استراتيجيات الدول الكبرى، إزاء المنطقة العربية، فإن الواقع السياسي والاقتصادي والأمني يؤكّد أن الولايات المتحدة لم تكن بحاجة لإسرائيل لترسيخ هذه المصالح، ولا في أي وقت من الأوقات.
طبعاً ليس القصد هنا التقليل من شأن إسرائيل في استراتيجية الولايات المتحدة في العالم العربي، ولكن المقصود هنا، أنه بعد قيام إسرائيل واستقرارها، لم تكن الولايات المتحدة بحاجة لفائض القوة والجبروت المكتنز في هذه الدولة. والثابت أن كل الحروب والاعتداءات التي شنتها إسرائيل في المنطقة، بعد قيامها، إنما شنّت لحسابها، وحساباتها الاستراتيجية: السياسية والأمنية والتوسعية. والواقع فإن الولايات المتحدة ليست معنية بحسابات إسرائيل الجغرافية والاستيطانية والأيديولوجية، ولا يهمها إن كانت مساحتها 20 كلم2، أقل أو أكثر، ولا إن كان ثمة مستوطنات في الضفة أو غزة، وبالطبع فإن حسابات التهويد لا تهمها أيضاً.
وبالنسبة للتفسير بعقلية صراعات الحرب الباردة، يمكن القول إن نشوء المشروع الصهيوني وقيام إسرائيل كان سابقاً على كل ذلك. ثم إنه في حسابات الحرب الباردة لم يكن العالم العربي موحداً، في هذا الموضوع، ولعل الكتلة الأكبر كانت في إطار مناهضة الاتحاد السوفييتي وما يمثله في المنطقة. والأهم من هذا وذاك أن تلك الحرب انتهت وباتت من الماضي منذ مطلع التسعينات ومع ذلك فإن الولايات المتحدة لم تغير موقفها من إسرائيل ولا من دعمها لها؛ كما لاحظنا إبان رئاسات كلينتون، وبوش الابن، وأوباما، وترامب، بغرض النظر عن الاختلاف في الأسلوب وفي اللهجة بين رئيس وآخر.
أما التفسير بقوة اللوبي الصهيوني، فهو لا يشرح كيف أن دولة بقوة وجبروت الولايات المتحدة تسيّر بقوة لوبي معين. والواقع أنه في مختلف المحطات كانت قوة اللوبي الصهيوني مستمدة من طبيعة السياسة الأمريكية ذاتها، ومن حيوية شبكة العلاقات التي صاغتها مجموعة المنظمات التي تمثل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، ومن طريقة عمل النظام السياسي الأمريكي ذاته. والثابت بالتجربة أن إسرائيل في الحقيقة هي التي تخضع سياستها لمتطلبات الإدارة الأمريكية، وليس العكس، وهي التي تحسب حساب الولايات المتحدة وليس العكس؛ فحيث لا يوجد تعارض بين مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن هذه الثانية هي التي تقرر، أما حيث يوجد تعارض فإن الأمر يحسم لصالح الولايات المتحدة. وقد حصل ذلك بعيد العدوان الثلاثي على مصر (1956) حيث أجبرت الولايات المتحدة، آنذاك، إسرائيل على الانسحاب من سيناء ومن قطاع غزة. وإبان إدارة الرئيس كارتر اضطر بيغن لعقد الصلح مع مصر والانسحاب من سيناء وتفكيك المستوطنات منها، وعندما شنّت الولايات المتحدة الحرب لإخراج العراق من الكويت (1991) ألزمت إسرائيل بالتزام الصمت. وحين عقد مؤتمر مدريد (1991) جلب الرئيس بوش (الأب) إسحاق شامير، رئيس وزراء إسرائيل، إلى هذا المؤتمر برغم معارضته له.
هكذا يتّضح أنه ثمة نوعاً من القصور في فهم واقع ومداخلات العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، ومحاولة للتنصل من مسؤوليات الصراع المعقد مع إسرائيل، بمختلف المجالات، بوضع هذه المسؤولية على عاتق العامل الخارجي، واعتبار أننا لا نواجه إسرائيل لوحدها وإنما نواجه الولايات المتحدة معها.
وفي الحقيقة فإن العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية الفريدة والاستثنائية، إنما تستمد عوامل قوتها واستمرارها من عناصر عديدة، لعل أهمها:
1 ـ وجود شعور بنوع من التماثل بين قيام إسرائيل وقيام الولايات المتحدة، التي نشأت أيضاً بوسائل الهجرة والاستيطان والقوة، ضد أهل الأرض الأصليين.
2 ـ وجود بُعد ثقافي ـ ديني، فثمة تيار أصولي في المسيحية المنتشرة في المجتمع الأمريكي، يعتبر قيام إسرائيل علامة من علامات القيامة، ولذلك فإن هذا التيار يدعم وجود إسرائيل من هذا المنطلق، وإن كانت غاياته في ذلك مختلفة.
3 ـ اعتبار أن إسرائيل تنتمي لمنظومة الحضارة الغربية، وبديهي أن تنحاز المجتمعات الغربية لها؛ ولاسيما خلال الفترة السابقة، حيث كانت إسرائيل تدعي أنها واحة للديمقراطية والحداثة في المنطقة. وعلى أية حال فقد تداعت هذه الأسطورة بعد انفضاح الطابع العنصري والاستعماري لإسرائيل، ولكن النتائج كانت أكثر وضوحاً في أوروبا منها في الولايات المتحدة، بسبب البعد الجغرافي والتباين بين ثقافات وقيم المجتمعات الأوروبية عن المجتمع الأمريكي.
4 ـ طبيعة النظام السياسي الأمريكي، الذي يعتمد على دوائر عدة، خصوصاً أن الضغط عليه، لتوجيه دفة السياسة الخارجية الأمريكية، لا يقتصر على العلاقة بالرئيس أو بأركان إدارته، وإنما يشمل التأثير في دوائر الناخبين وفي مجلسي النواب والشيوخ، ووسائل الإعلام والشركات الكبرى والجامعات.
5 ـ واقع تشتت وضعف الإرادة وتخلف الإدارة السياسية في العالم العربي، برغم كثرة العرب وكثرة دولهم ونفطهم. فالكثرة تعني تضارب وتباين الإرادات والسياسات، على الصعيد الداخلي أو الخارجي، والثروات التي يمتلكها العرب تتحول عاملاً ضاغطاً عليهم، لأنها مصدرهم الوحيد لتأمين حاجاتهم الضرورية.
باختصار فبسبب من كل تلك العوامل، فإن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة تستمد فرادتها وقوة استمرارها، وبالأخص من ضعف فهمنا لطريقة وعي الأمريكيين لذاتهم ولعالمهم، وعدم قدرتنا على خلق الآليات والمفاهيم التي يمكن مخاطبتهم بها، وبالأساس فإن كل ذلك هو نتاج تشتت العرب وضعف أحوالهم. على ذلك فإن القادم مع بايدن لن يختلف عما شهدناه مع من قبله، سوى باللهجة والأسلوب، لا أكثر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.