تنذر الحملة التي شنّتها السلطات المصرية على أعضاء المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بموجة ثانية من إلصاق وصف "الإرهاب" بعمل المجتمع المدني؛ في محاولة لإسكات آخر طائفة متبقية من الناشطين المستقلين في مجال حقوق الإنسان بالبلاد.
تختلف المجموعات الحقوقية في مصر عن بقيّة منظمات المجتمع المدني، بسبب استقلالها الإداري والمالي، الأمر الذي جعلهم طريدةً للأنظمة المتعاقبة منذ بدء حِراك المجتمع المدني في الازدهار خلال ثمانينيات القرن الماضي. وبينما تساهل نظام مبارك مع تلك المجموعات والجمعيات في الوقت الذي تعمّد فيه الحدّ من نشاطهم عبر العراقيل الإدارية، أطلق نظام السيسي العنان لسياسة القمع، والاعتقالات، والتهديدات المباشرة.
بالون الاختبار
في العقود الأخيرة، تجسّد الصدام الأكثر وضوحاً بين المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان والدولة المصرية في خضم تصاعد دور الجيش بالحياة السياسية بعد ثورة 2011. وتبنّى الجيش نهج "بالون الاختبار" في قمع المجموعات الحقوقية، إذ استهدفت حملته القمعية الأولى المنظمات الأقل شهرة قبل أن تمتدّ إلى منظّمات أكثر بروزاً على الساحة، مثل المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
يوم الخميس 3 ديسمبر/كانون الأول، أعلنت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية الإفراج عن مُدافعيها جاسر عبدالرازق، وكريم عنارة، ومحمد بشير، إلا أنه لم يتضح على الفور ما إذا كانوا يواجهون اتهامات حتى وقتنا هذا.
مع ذلك، لم يكن التصعيد الذي استهدف "المبادرة" مُفاجئاً بالنسبة لمجتمع المدافعين عن حقوق الإنسان، ومن بينهم أنا. فهو تصعيد يتماشى مع الإجراءات التشريعية، والسياسية، والإدارية، التي يتخذها نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ عام 2014. ولم يكن زميلنا جاسر عبدالرازق أول مُدافع عن حقوق الإنسان يُتَّهم تعسُّفاً بالإرهاب، كما لم تكن "المبادرة" أولى المنظّمات التي اتهمها النظام بأنها مجموعة إرهابية.
فقبل سنتين، على سبيل المثال، أُلقي القبض على مدير التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، عزت غنيم، وأعقب ذلك اعتقالات متتالية استهدفت أعضاء مجلس إدارة المجموعة الحقوقية ذاتها. واستخدمت كلتا الحملتين الأدوات نفسها، لا سيما توصيف "الإرهاب".
جذور العداء
إن جذور الصدام الحالي بين الجيش ومجموعات حقوق الإنسان تمتد إلى فبراير/شباط 2011، حينما لعبت المجموعات الحقوقية دوراً رائداً في تسليط الضوء على الانتهاكات ضد المتظاهرين خلال الانتفاضة المناهضة لمبارك. إذ داهمت الشرطة العسكرية مركز هشام مبارك القانوني، واعتقلت نحو 30 فرداً من المدافعين عن حقوق الإنسان، والمحامين، والصحفيين. واعتُقل آخرون، لأنهم أحضروا بطانيات للمعتصمين في ميدان التحرير.
كانت تلك الإجراءات بمثابة إعلان عن نوايا النظام العسكري وإشارة إلى سياسته المستقبلية إزاء المجموعات المدافعة عن حقوق الإنسان. ومنذ ذلك الحين، عكف الجيش على الحدّ من توسّع تلك المجموعات.
بعدما أطاح النظام العسكري بالحكومة التي جاءت بها انتخابات ديمقراطية في عام 2013، تعمّد الانتقال من مرحلة التهديدات والاعتقالات إلى معاملة المدافعين عن حقوق الإنسان مُعاملة فجّة، واصفاً إياهم بالجماعات "الإرهابية"، وهي الطريقة نفسها التي تعامل النظام العسكري بها مع جماعة الإخوان المسلمين المعارضة. وفي ذلك العام، جرى تجميد أموال أكثر من ألف جمعية خيرية دينية.
ولاحقاً، اتخذ النظام العسكري خطوات أخرى لتضييق الخناق، من بينها التعديلات التشريعية التي يسَّرت اعتقال النشطاء والصحفيين.
لطالما كانت الإجراءات المتخذة ضد المجموعات الحقوقية منذ عام 2014 تستهدف -جزئياً- قياس رد فعل المجتمع الدولي، لاسيما تلك البلدان التي تتشدَّق بالكلام عن قضايا حقوق الإنسان في مصر رغم إبقائها على الشراكة الإستراتيجية مع النظام.
ولاحقاً، تتخذ السلطات المصرية خطوات نحو تهدئة التوترات وخلق غطاء قانوني للبلاد، وضمن ذلك القرارات الإدارية المناهضة للمجتمع المدني.
في الوقت نفسه، يسعى النظام المصري إلى استرضاء المجتمع الدولي وصرف انتباهه عن قضايا حقوق الإنسان عبر الصفقات الاقتصادية والعسكرية المُربِحة. على سبيل المثال، جاء اعتقال أفراد المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في أعقاب لقاء السيسي مع مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي بالقاهرة، حيث ناقشا العلاقات الإستراتيجية، ومن بينها الأزمة الليبية، والهجرة، واللاجئين، والاقتصاد. ولم تكن مسألة حقوق الإنسان في مصر على أجندة اللقاء.
حشد العالم
من هذا المنطلق، تجعل حكومة السيسي المجموعات الحقوقية بمثابة رهائن لعلاقاتها الدبلوماسية مع المجتمع الدولي؛ سعياً منها وراء اختزال مطالب الإصلاحات السياسية والقانونية في قائمة أفراد يتعين الإفراج عنهم نظير مكتسبات سياسية مؤقتة.
إن السبيل الوحيد لنجاة طرفي تلك العلاقة غير المتكافئة مع النظام المصري -وهما المدافعون عن حقوق الإنسان من ناحية، والمجتمع الدولي الذي يدعمهم من ناحية أخرى- هو حشد الضغط الدولي ضد النظام.
ويمكن أن يتحقق ذلك بطرق شتى: أولاً، من خلال العمل على توصيف مصر كدولة لا تلتزم بالاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان. وثانياً، بحشد المعارضة الدولية لسياسة السيسي المتمثلة في استخدام صفقات الأسلحة والصفقات الاقتصادية كأوراق مساومة، مقابل غض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان. وثالثاً، من خلال معارضة سياسة ترهيب المجتمع المدني التي يتبناها النظام بإلصاق توصيف "الإرهاب" بمجموعات المدافعين إثر دوافع سياسية.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.