بعد مرور عشر سنوات على المأساة في سوريا لا بد لنا أن نتحدث عن بعض ما اعترى العمل العام من خلل عند طرفي الصراع الذي أودى بسوريا ورمى بها عقوداً إلى الوراء، ولكي نتحرى العدل المطلوب فلا بد من مقاربة الموضوع من جهة الطرفين المتصارعين، طرف النظام وطرف المعارضة.
أولاً: طرف النظام
اختزل النظام سرديته في الصراع في شخص واحد جعلت منه رمزاً للصمود أمام المؤامرة الكونية، فاستخدم النظام كل وسائله المدنية والعسكرية لترسيخ هذه السردية في أذهان مواليه، فأصبح الأسد دون ما سواه رمزاً لا يمكن المساس به البتة، ولو كلف الأمر اختزال الصراع بشعار لم نسمع به حتى أيام النازية والفاشية، وهو شعار "الأسد أو نحرق البلد"، فاحترق البلد وبقي الأسد،ولو أن أصحاب هذا الشعار الاستئصالي الصفري تداركوا أنفسهم ابتداء لبقيت سوريا ورحل الأسد.
هذا الشعار كلّف السوريين ثمناً باهظاً من التشريد والتخريب والموت، ما يحتم عليهم تعلم الدرس بأن ما حدث يجب أن يصبح خطاً أحمر في المستقبل، أن ليس هناك أغلى من الشعب، ولو أن خياراً بين الشعب وفرد واحد منه طفا إلى السطح فإن رحيل الفرد يجب أن يكون هو الحل وليس رحيل الشعب، وأن كل ما نُفِث في وعي الشعب بترميز ذلك الفرد إنما كان حيلة يحتالها المستفيدون من هذا الترميز لمصالح خاصة، رؤوس الترميز هؤلاء يجب أن يرحلوا أيضاً مع رمزهم.
وقد شاهدنا خلال السنوات الأربع الماضية في أمريكا محاولة ترميز دونالد ترامب، ونفخ الروح في صنمه لعلهم يحيونه فيحرقون به مخالفيهم وينهون به التجربة الأمريكية الديمقراطية التي وصلت في قناعتهم إلى مرحلة حرجة لم يحسب حسابها الآباء المؤسسون، هذه المرحلة التي مكنت السود والمهاجرين من تبوُّء المناصب الحساسة في هرم السياسة الأمريكية، بدءاً من باراك أوباما وانتهاء الآن بكامالا هاريس، نائبة الرئيس المنتخب، والتي أصبحت على بعد خطوة واحدة من الوصول لذلك المنصب، فيما لو شاء الله أن يتوفى بايدن خلال السنوات الأربع القادمة.
وما يجري الآن في كواليس السياسة الأمريكية هو ماذا نفعل بظاهرة ترامب الرمز، وماذا نفعل برؤوس الترميز الذين مكّنوه من فكفكة بعض ثوابت المؤسسات الأمريكية الراسخة، التي كانت إلى فترة قريبة مثالاً يُحتذى في انضباطها وانصياعها للقانون، حتى جاء ترامب فاستبدل نفسه بالقانون، فيما مكَّن له وزير العدل ويليام بار ذلك. ويعكف الآن بعض المشرعين والقانونيين على محاولة الإجابة عن السؤال ماذا نفعل بوزير العدل ويليام بار وأمثاله؟ الجواب عن هذا السؤال سيكون محوراً أساساً من محاور السياسة الأمريكية زمن بايدن.
ثانياً: المعارضة
بالعودة إلى حوليات الثورة السورية وفي ممارسات الطرف الثاني، أي المعارضة، فقد طفت على السطح ممارسات مُخلخِلة للعمل، مُجَلَّلة بالأدبيات المبرِّرة خلال العشرية الماضية، لا بد من مناقشتها اليوم استعداداً للعشرية القادمة. سأناقش في السطور التالية بعضاً من هذه الممارسات والتي تلتقي في النتائج مع ممارسات المُرَمِّزين من طرف النظام. كما أنها تلتقي في بعض منها مع ممارسات المعارضة الثورية في باقي دول الربيع العربي، لوحدة المنهل الذي نهل منه بعض الأطراف الثائرة، خصوصاً الإسلامية.
1- ممارسة الفشل
أول هذه الممارسات هو ممارسة الفشل المرة تلو الأخرى، وعدم التنحي بحجة أن الإنسان عليه العمل ولكن النتائج على الله، مستدلين على ذلك بالآية الكريمة "إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" (الرعد:٤٠). والحديث الشريف، عن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما معناه "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي يُظنُّ أنها تفصل نتيجةَ العمل عن صاحبه وتحميه في حال فشل عمله، الأمر الذي فتح الباب أمام سيل جارف من الفشل الذي اعترى العمل الثوري العربي، والذي إلى يومنا هذا لم يتحمل مسؤوليته أحد! هذا الانفصال بين العمل ونتائجه قد أدى إلى أمرين اثنين.
أولهما أنه قد أودى بنا من فشل إلى آخر.
وثانيهما أنه لم يسمح بتطوير آليات ضابطة للعمل والمسؤولية تسمح بتعريف موضوعي للفشل وتجاوز الذين لم ينجحوا، ومن ثَمّ تقديم آخرين ليتحملوا أعباء برامج انتخابية كان يُفترض أن تُقدم للناس مشروطة بمدد زمنية لتحقيقها، فإن لم تتحقق خرج أصحابها مفسحين المجال لآخرين في عملية تداولية للسلطة ليس فيها غالب أو مغلوب.
هذه العملية هي التي كانت ستسمح بالتراكم العملي المؤسساتي المضبوط بنواظم وضوابط تبرز الناجحين دون شخصنة الفشل. لكن تمسُّك الفاشلين بمناصبهم تحت ذريعة "وإذا اجتهد فله أجر واحد" والتي لم يكن القصد منها أبداً تبرير بقاء الفشل، إنما على العكس تماماً، فتح الباب للمجتهد المخطئ بالخروج مأجوراً أجراً واحداً لإفساح المجال أمام مجتهد آخر لعله يصيب فيؤجر أجرين فتنعم البلاد والعباد بإصابته.
2- ممارسة تبرير الخطأ
أما الممارسة الثانية فهي تبرير الخطأ لمن هم في مواقع المسؤولية خلف أدبيات رائعة، لكن باستشهاد ليس في محله، هذه الممارسة هي تبرير خطأ وزلات المشتغلين بالشأن العام تحت ذريعة حديث: "التمس لأخيك عذراً"، هذا الحديث الصحيح والذي يعتبر من أسس أخلاقيات التعامل الإنساني بين الناس ليس مجاله إلا الشأن الخاص وليس العام.
ففي العلاقات الخاصة بين الناس يحض الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على التجاوز عن الزلات والأخطاء والتماس العذر، بغية استمرار الود بين الناس، هذا الودُّ الذي يعتبر الأرضية الراسخة التي تقوم عليها المجتمعات القوية.
أما حين يتقلّد أحدهم شأناً عاماً فإن هذه الأريحية في التماس العذر تختفي تماماً، وتنخفض للصفر، بل تصبح الرقابة والبحث عن أي خطأ هي الأساس ليس تصيداً للشخص إنما حماية للعامة من أي خطأ مقصود أو غير مقصود قد يؤدي إلى كارثة.
إن المعيار الذي يخضع له العاملون في الشأن العام يختلف اختلافاً جذرياً عن المعيار الذي يخضع له نفس الأشخاص في علاقاتهم الخاصة. وما قضية الرجل الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم لجباية الزكاة -والتي تعتبر من الشؤون العامة- فعاد الرجل بعد جبايته للزكاة فقال هذا لكم وهذا أُهديَ إلي! فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في المسجد وقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليّ؟ ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا!!
فهم الخليفة الراشد عمر رضي الله من ذلك أن عتبة المحاسبة للعاملين في الشأن العام منخفضة، بل تكاد تكون معدومة، فأسّس لذلك نظاماً صارماً في محاسبة الولاة، وما قصة القبطي مع ولد عمرو بن العاص، والي مصر، ومع أبي هريرة، والي البحرين، ومع عزله لخالد بن الوليد، وتعنيفه لأبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنهم أجمعين، إلا إشارات مضيئة في كيفية التعامل مع القادة والعاملين في الشأن العام حماية للناس.
أما ما فعلناه نحن فقد قلبنا تلك المعادلة، فأسقطنا التماس الأعذار بين بعضنا في علاقاتنا الخاصة، والتمسنا العذر تلو الآخر لمن تولوا الشأن العام، فضاعت المودة بين أفراد المجتمع، فيما بقي المتمكنون من رقابه على كراسيّهم، نلتمس لهم ويلتمسون لبعضهم الأعذار.
فأصبح التماس العذر هو أساس الحكم وتطورت أساليب البقاء على الكرسي، تحت ذريعة التماس العذر، أولها إذا اجتهد فأخطأ فله أجر، وآخرها هو أن الحاكم ممتاز، لكن الذين حوله سيئون.
3- عدم التفريق بين المبادئ والمواقف
أما الأمر الأخير الذي يحتاج تفصيلاً، فهو التشوش الذي يعتري بعض العاملين في المجال السياسي في التفريق بين المبادئ والمواقف. هذا التفريق يحتاج من كل العاملين في الشأن العام وحتى الخاص تعريف المبادئ التي سيناضلون من أجلها.
هذه المبادئ هي التي يعيش من أجلها الإنسان، كمحاربة الظلم والانتصار للضعيف والوقوف في وجه الظالم. ولعل خطبة أبي بكر الصديق بعد توليه الخلافة مثال يوضح ذلك: أما بعدُ، أَيُّها الناسُ فَإِني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني، الصِدْقُ أمانةٌ والكَذِبُ خِيَانَةٌ، والضعيفُ فيكم قويٌّ عندي حتى أرجعَ إليه حقَّه إن شاء اللّه، والقويّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذَ الحقَّ منه إن شاء اللّه.
فهو يحدد هنا أن الصدق أمانة والكذب خيانة، وهذان المبدآن يمكن اعتبارهما الركيزة الداخلية الناظمة لأي عمل عام. فمتى استبدل الناس الكذب بالصدق داخل مجموعة ما فعند ذلك تزول كل مقومات الثقة بينهم، ومتى أصبح القائد كذاباً فعند ذلك سينفرط عقد أي تجمع ولو حاول ذلك القائد جمعه بمعسول الكلام، طبعاً ستبقى مجموعة من الأتباع تحيط بالقائد الكذاب لأنه ربط مصالحهم بمصالحه.
لذلك لا بد لنجاح أي ثورة وحركة سياسية أن تعمل لا على إنجاب القائد، بل على إنجاب "السراة"، وهم الذين يحيطون بالقائد، يضبطون إيقاعه ويحددون له المسار، ضمن محددات مبدئية لا يستطيع القائد أو غيره الخروج عليها. ولعل من العجب العجاب أن عرب الجاهلية عرفوا قيمة السراة كما تحدثنا أبيات الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي في داليّته الشهيرة، التي نختم ببعض أبياتها هذا المقال، لعلها تكون إطاراً ودافعاً لتشكيل كل مجموعة عامة عاملة سراة يمنعون قيادتها من الزلل.
لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لاَ سَراةَ لَهُمْ
ولا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا
تُلفى الأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلَحَتْ
فإن تولّت فبالأشرار تنقادُ
إِذَا تَوَلَّى سَرَاةُ الْقَوْمِ أَمْرَهُمُ
نَمَا عَلَى ذَاكَ أَمْرُ القَوْمِ فَازْدَادُوا
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.