تعرضت تركيا منذ عام 2013 حتى الآن إلى الكثير من الضغوط والأزمات التي جعلتها في حالة من العزلة وقد عملت العديد من الدول من فرنسا إلى الولايات المتحدة إلى اليونان مروراً بمصر والسعودية والإمارات ووصولاً إلى إسرائيل إلى زيادة عزلة تركيا. وقد كان هذا ملحوظاً في ليبيا وفي شرق المتوسط حيث كانت تركيا وحدها تقريباً مقابل كتلة كبيرة من الخصوم، وكانت تبحث عن مواضع تشابه قليلة من التنسيق حتى مع دول صغيرة مثل مالطا ومع دول تخشى من أزمة اللجوء مثل إيطاليا، وقد نجحت في فك عزلتها بشكل تدريجي.
حصار قطر وتجربة ليبيا
منذ 2014 وفي أزمة 2017 وقفت تركيا بشكل قوي ضد حصار قطر من السعودية والإمارات والبحرين ومصر وخاطرت بعلاقاتها وأرسلت قوات للدوحة، وكان لدورها أثر كبير على منع تطور الموقف إلى تدخل عسكري ضد قطر من دول الحصار ومع أن قطر تعتبر صديقاً لتركيا منذ بداية الربيع العربي فقد كسبت بعد هذا الموقف شريكاً قوياً، ولكن مع ذلك عرضها هذا الأمر لفرض عزلة إقليمية، ولكن يمكن القول إن قطر كانت داعمة لكل خطوات تركيا سواء في سوريا أو العراق أو في المنطقة عموماً.
ومؤخراً استطاعت تركيا بتصميمها على فك العزلة السياسية والاقتصادية أن تحقق عدداً من الإنجازات وهي عملية بدأت منذ أكثر من عام، حيث استطاعت تركيا إفشال هجوم حفتر على طرابلس ودحرته عسكرياً إلى ما بعد سرت، كما يتبين أنها أضعفت حفتر سياسياً بشكل كبير ولم يعد له حضور ملموس على الأجندة السياسية لليبيا، وهو الأمر الذي فتح حواراً جديداً في ليبيا قد يقود إلى الاستقرار وستكون تركيا أحد أبرز الرابحين فيه.
تحرير قره باغ
دعمت تركيا أذربيجان بشكل قوي سياسياً وعسكرياً من خلال تزويدها بالأسلحة اللازمة وخاصة طائرات بدون طيار ما شجع حكومة الرئيس الأذري إلهام علييف على المضيّ في تحرير منطقة إقليم قره باغ الذي تحتله أرمينيا منذ مطلع التسعينيات، وبالرغم من الموقف الروسي بدأت المعارك في نهاية سبتمبر 2020، وانتهت بتوقيع اتفاق وقف إطلاق نار أدى إلى تحرير 80% من الإقليم جزء كبير منها من خلال المعارك العسكرية وجزء آخر من خلال المباحثات الدبلوماسية.
وعلى المستوى الدبلوماسي لعبت تركيا دوراً كبيراً في تقوية موقف باكو على طاولة المفاوضات حيث طالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ بداية المعارك أرمينيا بإنهاء "احتلال" منطقة ناغورنو قره باغ التي تتنازع عليها مع أذربيجان، مؤكداً أن إنهاء "احتلال" أرمينيا وانسحابها من المنطقة هو مسار العمل الوحيد الذي من شأنه إرساء السلام. كما استندت باكو إلى قوة الموقف التركي في رفضها لمحاولات روسيا تطبيق وقف إطلاق نار هش يسعى إلى إنهاء الموقف دون ضمان حقوق أذربيجان.
ومن جهة أخرى ساهمت طائرات بدون طيار التركية التي اشترتها باكو في إلحاق خسائر ضخمة بالجيش الأرمني والقوات التابعة له، إذ دمرت دبابات ومخازن أسلحة وأنظمة دفاع جوي ومناطق قيادة ومراقبة ومركبات عسكرية، ويمكن القول إن المقاطع اليومية تقريباً والتي تبثها الحكومة الأذرية لمشاهد لأهداف تقصف بواسطة الطائرات المسيرة التركية من طراز "أكنجي" و"بيرقدار تي بي2″ تشير إلى الدور الكبير لها في حسم المعارك والتقدم الأذري على الأرض.
ومع التقدم الأذري على الأرض والاستمرار في تحرير المزيد من المناطق حصل تغير في لهجة موسكو تجاه انخراط أنقرة في المباحثات الجارية لإيجاد حل للنزاع حول قره باغ وعملياً وضعت تركيا نفسها بديلاً للدول الأخرى الموجودة في إطار مينسك الذي لم يفعل شيئاً خلال 30 عاماً مضت.
لقد وقفت تركيا مع أذربيجان وقفة كبيرة وبالتالي من المتوقع أن تكون أذربيجان حاضرة مع تركيا في أي أزمة تتعرض لها الأخيرة وبالتالي ضمنت تركيا دولة مهمة أخرى ستقف معها ومن المتوقع أن تستفيد تركيا من معاملة خاصة من أذربيجان في مجال الطاقة، خاصة الغاز الطبيعي الذي تصدره باكو لتركيا وأوروبا عبر تركيا.
وعلى ذكر الطاقة فإن اكتشاف تركيا في 21 أغسطس 2020 حقلاً للغاز قبالة سواحلها على البحر الأسود بما مقداره 320 مليار متر مكعب، ثم الإعلان بعد ذلك بشهر عن اكتشاف كمية أخرى مقدارها 85 مليار متر مكعب في نفس المنطقة والتي تقدر قيمة مجموعها بحوالي 65 مليار دولار. يعد عاملاً مهماً في تحقيق استقلال تركيا في مجال الطاقة ولو لعدة سنوات، وهو الأمر الذي سيعمل على حلحلة عزلتها أيضاً.
من المعروف أن تركيا كانت دولة تعتمد على استيراد الطاقة من الخارج وتدفع سنوياً ما يقرب من 40 مليار دولار، وبالتالي سوف يساهم هذا الاكتشاف من تقليل اعتماد تركيا على الدول المصدرة وعلى رأسها روسيا وإيران. وفي التخفيف قليلاً عن كاهل الاقتصاد الذي يتعرض للتراجع في الآونة الأخيرة بسبب تراجع الاستثمارات وأزمة وباء كورونا. وفي هذا المجال يمكننا أن نذكر أن تركيا قد تستفيد خلال عملية التفاوض مع الدول التي تصدر الطاقة إليها، خاصة إيران وروسيا، في العمل على تقليل سعر المتر المكعب من الغاز في ضوء اكتشافاتها الجديدة وفي ظل انتهاء مدد بعض الاتفاقيات السابقة والتي تحتاج لتجديد، وهنا فإن تركيا ستدخل الاكتشافات الجديدة كمعطى جديد لصالحها في معادلات الطاقة.
وبينما كانت تركيا ولا زالت في خضم نزاع على مناطق النفوذ ومناطق احتياطيات الطاقة شرق المتوسط جاء هذا الاكتشاف في البحر الأسود والذي من شأنه أن ينهي اعتمادها على الخارج ويجعلها أكثر قدرة على المناورة شرق المتوسط. ومع ذلك فإن تركيا عازمة على التنقيب عن الطاقة شرق المتوسط، ومن شأن أي اكتشافات جديدة هناك أن تفتح لتركيا آفاقاً جديدة.
انتخاب بايدن
قد تكون تركيا غير مرتاحة بعد فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بسبب العلاقة التي تم بناؤها بين أردوغان وترامب واستطاعت حل بعض الأزمات وتخفيف التوترات نسبياً، ولكن من جهة أخرى فإن فوز بايدن سيعمل على تخفيف الفوضى والاستقطاب الإقليمي، حيث سيتراجع الدعم اللامشروط الذي كان ترامب يقدمه لبعض القادة الإقليميين من سيجعل قادتها يعيدون النظر في إعادة علاقاتهم مع تركيا، كما أن موقف بايدن من إيران سيجعل كافة الدول المناوئة لإيران تعمل على تحسين علاقاتها مع تركيا للاستفادة من دورها الموازن لإيران في سوريا والعراق وأماكن أخرى.
على صعيد آخر وفي مواجهة الإسلاموفوبيا التي برز فيها الدور الفرنسي الذي يمثله ماكرون كان دور تركيا حاضراً من خلال التنسيق مع عدة دول على رأسها باكستان وماليزيا، وهما من الدول الصديقة لتركيا والتي تحاول تركيا العمل على توثيق الصداقة معهما.
يمكن القول إن تركيا حاولت نزع شوك عزلتها بنفسها ففعلت ذلك في قطر وليبيا وساهمت في الإنجاز التاريخي لأرمينيا في تحرير قره باغ، كما أن اكتشاف الغاز الطبيعي في البحر الأسود سيساهم في تحقيق استقلال نسبي في قطاع الطاقة سيورث راحة في السياسة الخارجية.
ولو أمعنا النظر سنجد أن تركيا اعتمدت على الأدوات المحلية بشكل كبير ففي ليبيا وقره باغ استطاعت طائرات بدون طيار التركية تحقيق العديد من الضربات القوية للخصوم مما ساهم في حسم المعركة بأقل الأضرار وتحقيق تقدم سريع ونظيف، وعلى مستوى الغاز فقد كانت أدوات وسفن التنقيب والاستكشاف سفناً تابعة لجهات محلية تركية وليست تابعة لجهات أجنبية مما ساهم في تحقيق استقلالية في القرار.
أما فوز بايدن فمن المتوقع أن يخفف الضغط الإقليمي على تركيا ما سيجعلها تتنفس الصعداء، ولكن هذه المرة بعد أن اختبرت قوتها في الأماكن المذكورة وأثبتت لنفسها أن لديها قدرة على الفعل وتغيير التوازنات، تحديداً كان لدور تركيا في معركة طرابلس وفي تحرير جزء كبير من قره باغ مفصلياً، والآن لدى تركيا أصدقاء ممتنون في طرابلس وباكو والدوحة وستعمل على زيادة أعدادهم. ومن خلال أزمة ليبيا استطاعت تركيا نسج علاقة تنسيق مع الجزائر وفتحت قناة حوار مصر. كما أنها فوق ذلك كله استطاعت إيجاد حلول حتى الآن لكل خلافاتها مع موسكو، وحتى مع اليونان فقد بدأت في حوارات استكشافية لمنع تشكيل جبهة كبيرة ضدها ولا زال هذا الموضوع قيد السجال.
ومن هنا نخلص إلى أن الإرادة السياسية والإمكانات المحلية يمكن أن تساهم في إيجاد فرص لفك العزلة المفروضة وتوثيق الصداقة مع الأصدقاء الحاليين تمهيداً لزيادة أعدادهم، فضلاً عن اكتشاف القدرة الذاتية على الصمود وعلى إمكانية تجاوز العزلة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.