بعد مرور أيام على التاريخ الرسمي للانتخابات الرئاسية الأمريكية يبدو أن الأمور لا تتجه بشكل سلس نحو تحديد الفائز بالسباق نحو البيت الأبيض، مع أن استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تنبأت لبايدن بالفوز بشكل مريح على غريمه الجمهوري دونالد ترامب. لكن إن كان هناك من درس يمكن الإفادة منه بخصوص استطلاعات الرأي، هو كونها لا تتسم بالدقة الكافية، فحتى في انتخابات الرئاسة الأمريكية ٢٠١٦ أعطت إحصائيات ومؤشرات خاطئة، بانتصار هيلاري كلينتون بشكل مريح، لكن آل الفوز في النهاية إلى المرشح الجمهوري الذي لم يراهن عليه أحد، دونالد ترامب.
الانتخابات الأخطر في التاريخ الأمريكي
الانتخابات الرئاسية الأمريكية لهذه السنة تعد حدثاً فاصلاً في الحياة السياسية الأمريكية وحتى الدولية، كون الموضوع لا يتعلق فقط بصراع بين ممثلي الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول الوصول لسدة الحكم في الإمبراطورية الأعظم على وجه الأرض، بل يتعداه إلى صراع بين تيارين عالمين، يشكلان جوهر السياسة العالمية الحالية، تياران يتصارعان على طول الساحة السياسية الدولية، ينضوي تحت كل منهما مجموعة من الأطراف، كل حسب مصالحه، والأكيد أن المنتصر في هذا الصراع سيحدد هوية السياسة العالمية بشكل كبير للسنوات القادمة.
يتحدد جوهر هذا الصراع أساساً في رؤية كل تيار لشكل الممارسة السياسية، وما يحددها من أخلاقيات وسلوكيات، فالفترة التي رافقت وصول ترامب إلى السلطة، شهدت صعوداً كبيراً للشعبوية السياسية، والسياسات القائمة على المواقف التي تخاطب مشاعر الشعوب، وتثير النعرات القومية داخلهم، بل والتي تشجع العداوات والعنصرية. وشاهدنا الحلم الأمريكي يتحول إلى كابوس، بعد أن أظهر ترامب ميلاً غير مسبوق لتفوق العرق الأبيض داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وعنصرية شديدة تجاه المهاجرين من دول أخرى، بلغت حد التحريض ضدهم، ومنعهم من دخول الأراضي الأمريكية، واكب هذه الموجة صعود واضح لليمين المتطرف في أوروبا، والذي كان قد بدأ نجمه في السطوع حتى قبل وصول ترامب إلى السلطة، لكنه اكتسب زخماً إضافياً بعد ذلك، مدعوماً بانتشار خطاب الكراهية في كل مكان، إضافة إلى كل هذا، بدأت ظاهرة الابتزاز السياسي -الذي كان يتم في الماضي سراً وبطرق دبلوماسية- في الانتشار علانية، حتى أصبح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يأمر دولاً بعينها بالدفع مقابل الحماية، وحتى مقابل التغاضي عن أعمال قمع داخلية وغيرها. بجانب هذا وذاك، ظهرت على الساحة الدولية القرارات الارتجالية، والتي اتسمت بالفوضى وتجاوز القوانين والقرارات الدولية، بمنطق أن من يملك القوة يملك أيضاً الحق، من قبيل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والانسحاب الأحادي الجانب للولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران. أسلوب الارتهان إلى القوة هذا شجع أطرافاً أخرى على إطلاق يدها لفعل ما تريد، فشهد العالم زيادة في التدخلات الخارجية في صراعات عديدة، بل وزادت وحشية هذه التدخلات كما هو الحال في اليمن وسوريا وليبيا وغيرها. إلى أن أصبح الجميع يشعرون بأن العالم أصبح أقل أماناً، وأقرب من أي وقت مضى إلى الفوضى، خصوصاً مع انتشار فيروس كورونا، وما رافقه من تحديات اقتصادية، كادت أن تعصف بالسلم العالمي.
بايدن والأمل المنشود
مع كل هذه الفوضى، كان التيار العقلاني (إن جازت التسمية) يعول بشكل كبير على الانتخابات الأمريكية، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتحقيق توازن بين التنامي المضطرد للشعبوية واليمين المتطرف، وبين الحفاظ على الديمقراطية في العالم. لتشهد بذلك الولايات المتحدة الأمريكية أعظم انتخابات رئاسية في تاريخها، من حيث المشاركة الشعبية ومن حيث المتابعة الإعلامية والزخم السياسي، كما أنها شهدت اصطفافاً خفياً لشعوب دول عديدة خلف مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن، وهو أمر يمكن ملاحظته بشكل واضح على مواقع التواصل الاجتماعي. مرد هذا الاصطفاف بالدرجة الأولى هو البحث عن تغيير المشهد الداخلي لدولهم، معظم هذه الشعوب ترزح تحت نير أنظمة قمعية شديدة الوحشية، تمكنت تلك الأنظمة إما عبر رشاوى مالية أو تنازلات سياسية، من الحصول على ضوء أخضر لفعل ما تريد بمعارضيها في الداخل، بل وحظيت بالتغطية على جرائم خارجية، كما هو الحال في جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي الوحشية. بهذا تكون هزيمة دونالد ترامب في الانتخابات هزيمة مزدوجة لهؤلاء، لكن إلى أي مدى يمكن أن يصل بايدن في دفاعه عن الديمقراطية إذا ما تمكن من الظفر بالبيت الأبيض، خصوصاً في ظل محاولة الحفاظ على المكاسب التي حققها الاقتصاد الأمريكي في فترة حكم دونالد ترامب؟
التفاؤل الذي يملأ المتحمسين لبايدن، مردّه بالدرجة الأولى أنه لن يكون بأي حال من الأحوال أسوأ من ترامب، كما أن خلفية الرجل الديمقراطية، ومواقفه الداعمة لحرية التعبير وانتقاده للأنظمة الديكتاتورية، تجعله خياراً مقبولاً عند كثير من المدافعين عن الديمقراطية عبر العالم. كما تجعله خياراً غير مستساغ لكثير من الأنظمة، وعلى رأسها أنظمة عربية، لكن ما هو معلوم في السياسة، أن المواقف قابلة للتغير حسب الموقع السياسي لصاحبها، وحسب إكراهات المنصب الذي يشغله، وبايدن حال وصوله لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية لن يكون استثناءً من هذه القاعدة. خاصة أن مجموعة من الدول التي يمكن وصفها بالديكتاتورية، تمتلك أوراق ضغط اقتصادية قد تشهرها في وجه الإدارة الأمريكية القادمة. كما سيكون من المحتم على إدارة بايدن أن تتعامل بحكمة مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا حليفتها التقليدية، خصوصاً في ظل صراع عالمي على النفوذ مع الصين المنطلقة بقوة وبدرجة أقل مع روسيا، كل هذه الأمور إضافة لعوامل أخرى، قد تكبح طموحات بايدن وتخفض حجم التوقعات، حول حدوث تغيير مهم في خارطة السياسة العالمية، فلا يمكن التفاؤل مثلاً بزوال نظام قمعي كنظام الأسد في سوريا، أو تخفيف القبضة الأمنية في مصر، ولا محاسبة روسيا وغيرها على جرائمها ضد الإنسانية بحق الشعب السوري. وبالتأكيد ومن المستبعد التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، لكن رغم كل هذا فقد يمكن الحصول ولو على الحد الأدنى من الطموحات، كمنع تنفيذ أحكام إعدام جائرة بحق سجناء الرأي في مصر والسعودية، وتخفيف القيود على حرية الصحافة، وحتى كبح جماح آلة حرب النظام وحلفائه في سوريا، وكذا اتخاذ موقف من اضطهاد الصين للإيغور أو ميانمار للروهينغا وغيرها من القضايا الخارجية الملحة.
إضافة إلى محاولة ترميم الشرخ الداخلي بين مكونات المجتمع الأمريكي نفسه، الذي عانى طيلة فترة حكم ترامب من انقسام حاد، ومن تزايد مشاعر الكراهية تجاه المواطنين الأمريكيين من أصول إفريقية ولاتينية، كجزء من استعادة هيبة أمريكا الحقيقية، كوطن للجميع دون تمييز، بعد أن حوله ترامب بشعبويته إلى مكان أقل ترحيباً بالآخر.
أمريكا في مواجهة نفسها
الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية هي الفاصل في رأي الكثيرين بين استمرار الولايات المتحدة الأمريكية كرمز للحرية والدفاع عن الديمقراطية، وبين انزلاقها أكثر في وحل العنصرية ورفض الآخر، ولعل ما يزيد من التفاؤل هو التصويت غير المسبوق لصالح بايدن، في رسالة من الشعب الأمريكي لا تخطؤها البصيرة، مفادها أن الأغلبية داخله تميل إلى الحرية والديمقراطية، وتمقت الشعبوية والكراهية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.