يظهر تلاشي ظل دونالد ترامب في الشرق الأوسط جلياً في التحركات المضطربة لأقرب حلفائه.
إذ يعمل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على تسريع بناء المستوطنات قبل تجميده الحتمي أو توقف البناء، في يناير/كانون الثاني، حين يتولى الرئيس المنتخب جو بايدن السلطة. وأطلق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي سراح قلة قليلة من المعتقلين السياسيين الذين يقدر عددهم بحوالي 60 ألف معتقل كان قد زج بهم في سجونه.
ويُعطى مقدمو البرامج التلفزيونية في إعلام السيسي نصوصاً مختلفة لقراءتها كل يوم. ونشأت الديهي مثال بائس على ذلك، فحين كان بايدن مرشحاً هاجمه بالقول إنه أكبر رئيس أمريكي سناً في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وفي 20 نوفمبر/تشرين الثاني، سيبلغ من العمر 78 عاماً، وهذا سيؤثر على حالته الذهنية، وهو مصاب بالزهايمر، وبالتالي لا يصلح أن يكون رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن بعد إعلان وسائل الإعلام الأمريكية فوز بايدن بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، اكتست لهجة الديهي بالاحترام. وكان مما قاله: "علمنا للتو أن الرئيس عبدالفتاح السيسي بعث ببرقية تهنئة إلى الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن. وهذا الرجل يكنّ احتراماً كبيراً لمصر ومعروف بالحكمة وحسن الإصغاء، ولا يتخذ قرارات متسرعة. ولا يتخذ قرارات حين يكون غاضباً، وهذا ما كان يفتقر إليه دونالد ترامب، الذي كان عنيفاً وعنيداً ومتعجرفاً".
إشارات صغيرة
والسفير السعودي في لندن يتحرك باضطراب مماثل، إذ لمّح يوماً في إحدى مقابلاته مع صحيفة The Guardian إلى أن الناشطات المعتقلات قد يُطلق سراحهن خلال قمة مجموعة العشرين الأسبوع المقبل.
إذ قال السفير خالد بن بندر بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود: "هل تقدم مجموعة العشرين فرصة للعفو؟ ربما. أترك هذا الحكم لشخص آخر غيري. الناس تتساءل: هل يستحق ما فعلوه، مهما كان، الضرر الذي يسببونه لكم؟ ثمة نقاش يدور في المملكة حول ذلك داخل نظامنا السياسي وحكومتنا".
وفي اليوم التالي، اتصل بشبكة BBC لينفي ما قاله لتوه.
يا للسفير المسكين.
والملك نفسه ليس محصناً بأي حال من تقلبات السياسة الجامحة، إذ بدأ يتلطف في تعامله مع تركيا.
فبعد أسبوع من الزلزال الذي ضرب إزمير، أمر سلمان بإرسال "مساعدات عاجلة" إلى المدينة. وعلمنا بعدها أن ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة يلتقي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكانت مناسبة ذلك تقديم التعازي في وفاة رئيس الوزراء البحريني الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، لكن الاتصال المباشر مع أحد أذرع الرياض ما كان ليحدث دون ضوء أخضر من الديوان الملكي السعودي.
ويُشار إلى أنه منذ رفض أردوغان التهاون في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول، أصبح شخصية مكروهة في الرياض. ودأبت مواقع التواصل الاجتماعي السعودية -مراراً- على إعلان تركيا تهديداً إقليمياً، وأنه يجب مقاطعة السلع التركية. والآن تغير كل شيء.
وهذه الإشارات صغيرة، لكنها تشي بالكثير بعد مغادرة ترامب منصبه.
وكالة المخابرات المركزية تردّ
يتصدر قائمة الحلفاء المضطربين الرجل الذي استعان بترامب لتمهيد صعوده إلى السلطة.
فكي يصبح ولياً للعهد كان على محمد بن سلمان تشويه سمعة ابن عمه الأكبر محمد بن نايف والتخلص منه، رغم أن وكالة المخابرات المركزية كانت تعتبره ذخراً ثميناً لها في البلاد ومنطقة الخليج. وقبل أن يفعل ذلك اتصل بن سلمان هاتفياً بجاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره في شؤون الشرق الأوسط، ليطلب الإذن. وقالت مصادر مطلعة على المكالمة لموقع Middle East Eye، إنه مُنِح هذا الإذن.
وبايدن يعرف بن نايف شخصياً، وسعد الجابري رئيس ديوان بن نايف ووزير الداخلية السابق فرّ إلى تورونتو. وبعد أيام قلائل من اغتيال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، أرسل محمد بن سلمان مجموعة جديدة من فرقة النمر لقتل الجابري، وفقاً لدعوى مرفوعة بموجب قانون حماية ضحايا التعذيب في مقاطعة كولومبيا الأمريكية.
على أن الجابري كان محظوظاً، واكتشف ضباط الحدود في مطار تورنتو الدولي العملية وأعادوهم إلى بلادهم. ورغم أن كل ذلك أدلة قاطعة لم تُتخذ أي إجراءات للتعامل معه، وتقييم وكالة المخابرات المركزية بأن محمد بن سلمان أمر بقتل خاشقجي لم يُنشر أبداً.
وليس بايدن وحده هو من يتعيّن على ولي العهد أن يخشاه -رغم أن المرشح الرئاسي ادخر أقسى تصريحاته لمقتل خاشقجي- ولكن عودة وكالة المخابرات المركزية إلى طاولة صنع القرار في البيت الأبيض أيضاً.
وهكذا، بين عشية وضحاها، ينتقل محمد بن سلمان من رئيس في البيت الأبيض "أنقذ رقبته"، على حد تعبير ترامب، إلى خليفة له لا يهتم ولو قليلاً بفعل الشيء نفسه. وبايدن لديه كل الدوافع الممكنة لتشجيع أعداء محمد بن سلمان في العائلة المالكة على منع الأمير صاحب الطموح المفرط من أن يصبح ملكاً، ويوجد ما يكفي منهم الآن.
بطاقة الخروج من المأزق
المكتب البيضاوي في ظل الإدارة الجديدة لا يترك أمام محمد بن سلمان سوى خيارات قليلة نسبياً.
بيد أنه بإمكان محمد بن سلمان الاستعانة ببطاقة إسرائيل للخروج من هذا المأزق، بالسعي للاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها، إذ تحظى اتفاقات إبراهام الموقعة بين الإمارات والبحرين وإسرائيل بدعم من الحزبين في الكونغرس.
ورغم أن إدارة بايدن القادمة ستركز بشكل أكبر على استئناف المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، فلن تمنع دولة عربية كبرى أخرى مثل السعودية من الانضمام إلى المجموعة.
لكن معارضة التطبيع السعودي مع إسرائيل ستكون في الداخل وليس الخارج، والاعتراف بإسرائيل سيكون محفوفاً بالمخاطر على المستوى المحلي. ومهما بلغت درجة ترهيب سعود القحطاني للرأي العام السعودي على مواقع التواصل الاجتماعي، فسيظل مؤيداً بشدة للفلسطينيين ومعادياً للصهيونية.
وتظل فلسطين، اليوم أكثر من أي وقت مضى، المصدر الرئيسي لانعدام الاستقرار في الشرق الأوسط، والصراع الذي يرسم سياساته، الصراع الذي يظل رمزاً للاستعمار الأوروبي ومهانة العرب.
أن يعترف خادم الحرمين الشريفين بإسرائيل؟ ليس على جثث الكثير من المسلمين.
وفي كل مرة اضطر فيها محمد بن سلمان للتراجع عن رغبته في الاعتراف بإسرائيل (وكان على وشك السفر إلى واشنطن وأداء دور الداعم المبتسم في حفل التوقيع في البيت الأبيض، قبل أن يتراجع في اللحظة الأخيرة) كان يتوجه إلى والده بالقول إن شيئاً لم يتغير ويعيد التأكيد على سياسة الدولة الرسمية.
وكان سلفه الملك عبدالله هو من نشر مبادرة السلام العربية عام 2002، التي لا تسمح بالاعتراف بإسرائيل إلا بعد التوصل إلى حل تفاوضي على أساس حدود عام 1967.
إن خسارة "سقف ترامب الحامي" ووصول رئيس معادٍ في شخص بايدن تعني أن محمد بن سلمان سيحتاج إلى منصب والده الملكي أكثر مما فعل في الماضي. ونعلم من مصادر سعودية أن محمد بن سلمان كان في مرحلة ما يفكر في إجبار والده على التنازل المبكر عن العرش لأسباب صحية والاستيلاء على العرش لنفسه.
وفي جولة التطهير الأخيرة، استهدف محمد بن سلمان أعضاء بارزين في هيئة البيعة التي يتمثل دورها في الموافقة على خلافة الملك وتعيين ولي العهد الجديد.
وكانت الاعتقالات الأخيرة التي تهدف إلى التخلص من منتقديه في هيئة البيعة لتكون منطقية إذا كان محمد بن سلمان نفسه ينوي أن يصبح ملكاً، لكن ذلك كان في أوقات الرخاء، حين كان نجم بن سلمان يصعد، وكان لا يزال بإمكانه زيارة لندن وواشنطن دون إثارة جموع المتظاهرين الحقوقيين الغاضبة.
أما في الأوقات العصيبة، فيظل الملك زعيم القبيلة، الذي تدين له العائلة المالكة والمملكة بالولاء. وبغض النظر عن حالة سلمان الذهنية الفعلية، فهو لا يزال رب الأسرة ولن تقوم ثورة عليه. ولا ينطبق الأمر نفسه على ابنه إذا نحّى والده واستولى على العرش، بل سيكون هدفاً لانقلاب القصر، وربما كان هذا هو السبب الرئيسي وراء استمرار الأب ملكاً.
تحالف إقليمي
مصير التحالف الإقليمي الذي كان الملك المستقبلي محمد يحاول بناءه حول نفسه على المحك أيضاً. والصراع الحقيقي في العالم العربي السني يدور حول من سيتولى منصب القائد ووكيل الغرب.
والهدف من التحالف مع إسرائيل -في عين الإمارات- ليس زيادة الثروة بل النفوذ، النفوذ لتصبح القوة الإقليمية المهيمنة مع السعودية تحت حكم الملك محمد.
وهذا الطموح لا يزال قائماً.
لكن الدور الذي كان من المفترض أن يؤديه تحالف "الناتو العربي" لمحاربة إيران وكبحها، سيتضاءل الآن بمحاولة بايدن إحياء الاتفاق النووي مع طهران. وحكام إيران واصلوا تحدي ترامب مباشرة دون أن تطرف لهم عين. وصمدوا أمام هذا الرئيس الأمريكي كما فعلوا مع جيمي كارتر وكل رئيس جاء بعده.
وكان الاتفاق النووي مع إيران (المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA) تتويجاً لإنجازات باراك أوباما في السياسة الخارجية، رغم التوصل إليه بعد سنوات من المفاوضات التي ضمت العديد من الدول ووزراء الخارجية السابقين، أو ما يسمى بمجموعة خمسة+1 التي تضم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا وتركيا والبرازيل قبلهما.
غير أن تحركات كل جانب مرتبة، ومهما كانت الصعوبات التي تكمن في هذا المسار، فبايدن سيركز من جديد على إحياء هذا الاتفاق النووي. وحتى لو استمرت بعض العقوبات فسياسة استغلالها لممارسة "أقصى قدر من الضغط" ستنتهي.
لكن هذه الانفراجة ستفرض حتماً واقعاً جديداً في منطقة الخليج.
وستفرض أيضاً واقعاً جديداً على أعضاء التحالف المعارض، تركيا وقطر. فبايدن ليس من المعجبين بأردوغان، الذي أمضى ساعات طويلة في الحديث معه. واعتذر لأردوغان ذات مرة عن تصريحات يشير فيها إلى أن تركيا ساعدت في تسهيل صعود تنظيم الدولة الإسلامية. وهو لا ينوى فعلها مرة أخرى قريباً.
وفي اجتماع مع هيئة تحرير صحيفة The New York Times سُجل في ديسمبر/كانون الأول، وصف بايدن أردوغان بأنه مستبد. ورداً على سؤال حول مدى شعوره بالراحة تجاه استمرار الولايات المتحدة في بناء 50 سلاحاً نووياً في تركيا، قال بايدن إن مستوى شعوره بالراحة "تضاءل كثيراً" وإنه سيوضح للزعيم التركي أن الولايات المتحدة تدعم المعارضة.
عالم متقلب
حال وصول بايدن إلى السلطة، قد يجد صعوبة أكبر في إظهار هذا العداء الشخصي. فسواء أحب ذلك أم لا، أصبحت تركيا قوة عسكرية إقليمية أكثر ثقة مما كانت عليه في عهد أوباما.
وأثبت جيشها أنه قوة موازية للقوة العسكرية الروسية في سوريا وليبيا، وحقق للتو تقدماً كبيراً في ناغورني قره باغ، حيث أنشأ لأول مرة طريقاً برياً من الحدود التركية إلى بحر قزوين.
وهذا انتصار استراتيجي للدولة التركية.
وإذا كان بايدن يعتزم رفع العقوبات عن إيران جزئياً، فسيكتشف أنه يحتاج إلى تركيا في دور الموازن الإقليمي. وتركيا اليوم أصبحت لاعباً في الكثير من الساحات، من سوريا والعراق إلى ليبيا. وعلى بايدن أن يتعامل مع هذه "الحقائق على الأرض" سواء أحب ذلك أم لا.
وبالمثل، سيزداد الضغط الآن على السعودية لإنهاء حصارها على قطر. وجارتهما الملاصقة، الإمارات، لن تتوقف عن اعتبار سياسة قطر الخارجية الموالية للإسلاميين تهديداً وجودياً. لكن الشيء نفسه لا ينطبق على الرياض، وقد بدأت بالفعل مفاوضات سرية في عُمان والكويت.
إن تطور الأحداث هو ما سيُملي تحركات بايدن في الشرق الأوسط، لكن خسارة ترامب تمثل صفعة قوية لطموحات وتطلعات دول الخليج للهيمنة.
والعالم يزداد تقلباً وغموضاً.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.