رغم أنه يطفو على بحرٍ من النفط والغاز يفترض أن يلبي احتياجات شعبه لعقود؛ بات العراق غارقاً وسط بحرٍ عميق من الفساد يزداد اتساعاً يوماً تلو آخر، وإن برزَ زَبد فساد الطبقة السياسية على سطح ذلك البحر إلا أن أعماقه تخفي طبقات أخرى أكثر عمقاً وظلمة، تُسهم فيها شريحة واسعة من الأفراد والمجموعات المكونة للمجتمع العراقي، بما يُصعب من محاولات الإنقاذ التي يكاد تأثيرها أن يتلاشى مقارنة بضخامة حجم الفساد.
حين يُردد مصطلح الفساد في العراق لا يقتصر ذكره على مليارات الدولارات التي تم هدرها وسرقتها طوال السبعة عشر عاماً الماضية، ولا على ملفات الفساد الإداري الأربعين التي عددها عادل عبدالمهدي، رئيس الوزراء السابق، المتهم نفسه بالفساد، بل يتعداه إلى مستويات وجوانب حضارية واجتماعية ومهنية وثقافية وعلمية ونفسية، يلمسها العراقيون في حياتهم اليومية، لا مجال لحصرها في مقالٍ يوجز بعضها.
تغوّل القيم العشائرية على التحضر
تتنافس قيم البداوة والحضارة منذ أمد بعيد بين ريف العراق وصحرائه من جهة وبين مدنه من جهة أخرى -والتي تمثل بمجموعها ربع سكانه- فالشعب العراقي كما وصفهم د.علي الوردي: "شعب حائر قد انفتح أمامه طريقان متعاكسان وهو مضطر أن يسير فيهما في آن واحد، فهو يمشي في هذا الطريق حيناً ثم يعود ليمشي في الطريق الآخر حيناً آخر". وبسبب ضعف الدولة خلال العقدين الأخيرين فقد قطع غالبية المجتمع شوطاً طويلاً في درب البداوة في جانبها السلبي، واقتصرت ظواهر التحضر والمدنية على الجوانب العمرانية والشكلية وتدهور حضورها في السلوك الفردي والمجتمعي.
وبدل أن تتلاقح إيجابيات المجتمع الريفي مع إيجابيات المجتمع المدني، وفي ظل غياب دور الدولة والقضاء، انصهرت مساوئ البداوة مع مساوئ الحضارة في مجتمعات المدن، وأنتجت ظواهر كانت مختفية أو متخفية في العقود السابقة. فلا يمكن لأي مراقب ودارس لطبيعة المجتمع العراقي اليوم إنكار تفشي روحية الغلبة -للمال العام والخاص- وازدراء العمل وتقديم الخدمات. وتنامي ظاهرة الثأر والانتقام، والتعصب والولاء للزعامات الدينية والقبلية على حساب الانقياد للقانون، والتمرد على منظومة الدولة وحقوقها، وندرة الالتزام بالانظمة والقوانين، وعدم الحرص على المال العام والممتلكات العامة، وانتشار الأوساخ وضعف الاهتمام بالصحة والسلامة العامة، وعودة طبقة الإقطاعيين من بعض رجال الدين والعشائر والأحزاب والجماعات المسلحة. والخلافات والمعارك العشائرية، والتي تستخدم فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وانتشار الرشاوى والمحسوبية ودفع الإتاوات وافتعال المشاكل لأتفه الأسباب والابتزاز بستار العرف العشائري والاحتكام إلى الفصول العشائرية، حتى بين نواب البرلمان وأفراد الأجهزة الأمنية والحكومية. حتى أصبح معظم أفراد المجتمع بين مطرقة قيم يحددها بعض رجال الدين وسندان أعراف عشائرية واجتماعية يرسمها بعض شيوخ العشائر، وإن كانت خارج الدين وفوق القانون.
بالأمس كانت "تقرأ".. واليوم "بغداد تغرق"
ووسط مناخات الكبت والإكراه والتشوّهات الاجتماعية وضياع المعايير وغياب الاستقرار والرقابة؛ تسلل الفساد إلى الواقع الثقافي والفني الذي كان تراثه مشهوداً له بالرقي والتميز، وبعد فترة ازدهار ثقافي كانت فيه "القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ"؛ لكن باتت الآن "بغداد تغرق" في وحلٍ من الفساد الثقافي سببه هيمنة التطرف والإهمال المجتمعي والحكومي وهجرة الأقلام والريش والحناجر المبدعة، للبحث عن ملاذ يحتضن إبداعاتهم ويقيمها.
وبدل أن يؤدي المنتسبون إلى دوائر واتحادات الثقافة والفن والأدب والصحافة دورهم في ريادة مجتمعهم والارتقاء بالذوق والجمال والإحساس بالحياة؛ تحول بعضهم إلى أدوات للسياسيين ومنفذين لأجنداتهم، وانخرط آخرون بفعاليات إعلامية ومهرجانات ثقافية "شكلية"، ليجمعوا فتات ما يلتهمه الفاسدون، فضلاً عن انخراط حشود من الطارئين على ميادين الشعر والرواية والنثر والرسم ومزاحمتهم أكتاف أصحاب الصنعة الذين اختار معظمهم الانزواء بعيداً عن مضمار الثقافة.
الأمر ذاته في ميدان الغناء والموسيقى والمسرح والتمثيل، حيث يكاد سند الإبداع والأصالة والتراث الفني أن ينقطع، مع انحسار دور السينما والمسرح والتلفزيون في إنتاج الأعمال والشخصيات الفنية الإبداعية التي تنافس أعمال العقود الماضية وقاماتها الفنية، وتدهور مستوى الغناء العراقي إلى الحد الذي جرأ بعض "الغربان" للخوض في منافسة الحصول على حصة من سوق السماع الشعبي الذي فقد غالبيته حاسة التذوق الفني.
غطسة سريعة في أعماق الفساد
ها قد تجاوزتُ نصف عدد الكلمات التي لا زيادة لي عنها، ولم أزل على الجرف بعد، لذا أجدني مضطراً إلى استئذانك -عزيزي القارئ- لتحبس أنفاسك ولأغوص بك في أعماق بحر الفساد الذي يغرق البلد، أستعرض معك سريعاً مجالات أخرى دون المكوث معها طويلاً، خشية عليك من الاختناق حزناً وألماً.
- التفسخ الأخلاقي والقيمي: توسع مافيات الجريمة المنظمة والاختطاف والقتل وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر والمنازعات العشائرية، تفاقم الجرائم الإلكترونية والقذف والتشهير وابتزاز الفتيات، تضاعف حالات الاغتصاب والتحرش الجنسي، وتزايد أعداد الملاهي الليلية ومحلات المشروبات الكحولية.
- العنف والتفكك الأسري: معدل حالات الطلاق في العراق تتجاوز 8 حالات/ساعة أغلبها بسبب الخيانات الزوجية والإهمال. العنف الأسري على أشده بين الأزواج والزوجات والآباء والأبناء، ضرب الأطفال وتعنيفهم وإهمال تربيتهم، وتزويج القاصرات، وتقديم النساء كتعويض في بعض النزاعات العشائرية، وتزايد حالات الانتحار بسبب المشاكل العائلية.
- الفساد العلمي والتعليمي: نسب مخيفة لأمية الشباب وصلت إلى 50% في العاصمة بغداد، وتفاقم الغش بين الطلبة في المدارس والجامعات، ومكاتب تجارية لبيع بحوث الماجستير والدكتوراه للطلبة، وانتشار الدروس الخصوصية في ظل عدم كفاءة معظم المدرسين، وازدياد أعداد المدارس والجامعات الأهلية بلا رقابة، وتخريج دفعات هزيلة المستوى الدراسي، واتساع ظاهرة تهديد الكوادر التدريسية وابتزازهم، ومنافسة البعض على نيل الشهادات العليا رغبةً في رفع مستوى الرواتب لا المستوى العلمي.
- الفساد الصحي والبيئي والنفسي: تفاقم المشاكل والعقد النفسية والاجتماعية وعدم الاهتمام بمعالجتها، إهمال النظافة في معظم العيادات والمستشفيات الخاصة، فضلاً عن الحكومية، والاعتداء على الكوادر الطبية، وندرة الالتزام بإجراءات السلامة الفردية والحظر الصحي "جائحة كورونا نموذجاً"، واتفاق بعض الأطباء مع صيدليات ومختبرات معينة، وإجبار المرضى على مراجعتها، والغش الدوائي وبيع مواد مقلدة أو منتهية الصلاحية، واتساع ثقافة رمي الأوساخ والقمامة والمخلفات في الشوارع والساحات والأنهار، واتساع شريحة المدخنين وعدم احترامهم للآخرين في الأماكن العامة والمغلقة.
الفساد يلطخ أياديَ تدَّعي "الإصلاح"
وللأسف تسرّب الفساد أيضاً إلى الكثير من الجهات والمؤسسات والأحزاب والشخصيات التي ترفع لافتات إصلاحية -سياسية واجتماعية ودينية- بسبب انخراطهم في الفساد السياسي والمالي أو سكوتهم عنه، ففقد غالبية العراقيين الثقة بهم، والأمل في الخروج من وحل الفساد الذي يحيطهم من كل جانب، واقتصر حضور الإصلاح على الخطب الوعظية والشعارات الوطنية والحماسية التي لا تغير شيئاً من واقع المجتمع.
من المؤكد أن حال غالبية المجتمعات العربية لا يقل سوءاً عن حال المجتمع العراقي، ولكن اضمحلال هيبة الدولة والقانون وانعدام الدور المجتمعي تقريباً في الإصلاح يُفاقم وضع العراق سوءاً، ويمد عمر الفساد، والأمل معقود في الأفراد أصحاب الوعي والرغبة في التغيير لتفجير "ثورة شعبية" على الفساد المجتمعي، تزامناً مع الثورة على الطبقة السياسية الفاسدة، ثورة أخلاقية وقيمية تبدأ بالفرد وأفراد أسرته ودائرة تأثيره، وتتسع شيئاً فشيئاً، فبدون تغيير حال المجتمع وفكره وسلوكه وعلاجه من أمراضه سيبقى بيئة ولّادة للطغاة الفاسدين والمجرمين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.