بدا البطل منهكاً لكثرة ما لقي من أفعال "الهمجيين" (الهنود الحمر) الوحشية به وبمجموعته "البيضاء"، ومظلوماً ملاحقاً يحاول النجاة بنفسه والآخرين فقط، وذلك منذ اللحظات الأولى من الفيلم. وتكاد، كمتفرج، تحكم بأن الحق معه وتطالب بالعدل له، حتى إذا وصلتَ إلى نهايات الفيلم، لم يختلف حكمك، إذ يظل البطل "الأبيض" مظلوماً ملاحقاً، ويظل "الهمجي" وحشاً مفترساً، إلا في موقف واحد أو موقفين، وهما هامش القصة، هامش يُظهر "نُبل الهمجي" وإحقاقه الحق، حتى مع أعدائه. هامش يكشف الفرق بين سماحة "الهمجي" حينما يقع عدوه البطل الوحيد المتخم بالجراح في يده، وشركاء البطل البيض، الذين كان بعضهم السبب الرئيسي في وحدة البطل وجراحه القاتلة، وعلى أية حال لا يتغير مجرى القصة لصالح السماحة والعدل، فالبطل "الأبيض" يظل صاحب الكلمة الفصل إلى المشهد الأخير!
التجربة الفردية جداً والخبرة الناتجة عنها في حادث أو موقف معين للبطل، والتي غالباً ما تكون خبرة ذات علّة واضحة في القصة، هما ما يميز الأفلام الهوليوودية الموسومة بوسم "كلمة حق في الآخر". والفيلم المذكور أعلاه "العائد" The Revenant يمثل هذا النموذج، فالبطل هنا تضطره الظروف (الجروح المميتة، الوحدة، الحزن على فقد ولده، تخلّي رفاقه عنه…) إلى أن يرى في "الهندي الأحمر"، الذي ساعده وتفانى في تلك المساعدة، شخصية سوية ذات أخلاق إنسانية رفيعة لم يجدها في رفيقه الأبيض الذي تخلى عنه. ولكنه يظل، حسب سردية الفيلم، حُكماً ضعيفاً فردياً مشروطاً بظروف البطل "غير الطبيعية"، وهي الظروف التي، ربما، جعلته يحكم حكماً غير حقيقي في "عدوه"، حكماً مبالغاً في "دراميّته"، ومع ذلك كله، فحتى هذا الحكم "الوردي" يبقى بعيداً عن التأثير في طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون مع "الهندي الأحمر" وبعيداً كل البعد عن إحقاق حقه.
وبما أن "العائد" هو مثال لا حصر، فإنك تجد دوماً بين الأفلام الهوليوودية ما يؤكد فكرة "التعاطف الفردي مع الآخر" وفقاً لظروف معينة، والذي لا يمثل بأية حالٍ الاعتراف بحقه أو تبنّي قضيته، منها فيلم The Last Samurai، الذي يصل فيه بطل الفيلم الأبيض إلى حقيقة مقاتلي الساموراي بحضارتهم العريقة وأخلاقهم الراقية ورسالتهم الحية بتجربة فردية خاصة به عند وقوعه في الأسر عندهم، ويُظهر الفيلم من ذكرياته في حربه السابقة ضد الهنود الحمر "ندماً" قديماً يؤثر في حكمه الحالي على الساموراي. ومنها كذلك فيلم Kingdom of Heaven، باختلاف بسيط في فكرة عرض "التعاطف المجرد"، فالبطل الأبيض هنا، والذي يشارك في الحرب مع الجيش الصليبي ضد جيش صلاح الدين الأيوبي، هو "ابنٌ غير شرعي" لأحد القادة الكبار، عاش منسياً في بداية حياته إلى أن انتحرت زوجته وقتل هو أحد رجال الكنيسة لاحقاً، ففر هارباً إلى "القدس"، كي يصبح فيما بعد قائداً يميل إلى السلم، بل يقود الجيش الصليبي إلى تسليم القدس إلى المسلمين، لأنه تعاطف مع أخلاق أحد المسلمين في طريقه إلى هناك، فأعطاه القدس بها، لا لأن المسلمين قاتلوا وانتصروا، ولا لأن هناك قوة فاقت قوة الصليبيين على الأرض حينذاك، ولا لأن هناك قضية حق وباطل، هو فقط تعاطفٌ إلى النهاية.
حفل توزيع التعاطف
نوع التعاطف هذا يؤثر في وعينا أكثر مما يؤثر في وعي صانعي الصورة الهوليوودية على ما يبدو، وهو ما يجعلنا في كل مرة نسمع فيها وعداً سياسياً غربياً/أمريكياً/عالمياً يغمز لشيء من "حقنا" غمزاً لا صراحةً، أو تلوح عنا كلمة "جيدة" في خطاب ترشّحي جديد، أو تتجاوزها إلى زيارة "خاطفة" تساوي بيننا وبين "الخصم" في وجهة الزائر ولا تساوينا به في الوقت والجهد والمكسب. كل ذلك يجعلنا نتهلل ونستبشر في كل مرة بأن فرعون قد ولّى وجاءنا موسى بالخلاص، في حين أن الحكم والسلطة فعلياً ليسا بيد مترشح متعاطف يعطينا وعداً أو كلمة، ولا حتى بيد حزب ذي خطاب سياسي مختلف في الصورة التي يظهرها الإعلام والدعاية الانتخابية فقط، ليس بيد حاكم ذي بشرة سوداء ولا بيد حاكم تاجر ولا بيد حاكم درس القانون في الجامعة. فالسلطة الحاكمة هي سلطة المنهج الواحد الذي لا يتغير بتغير الشخوص والأحزاب والقوى الناشئة، المنهج الذي يأخذ من بلاد العالم كلها ما يُبقيه على قوته ومكانته، ولا يعطيها إلا ما يضمن به حماية مصالحه القائمة وتمدد مصالحه المرتقب تنفيذها. هو المنهج الذي يجعل عيناك تمتلئ دمعاً من تأثرك بمشهده وهو يعطف على أصحاب قضية على الشاشة أمامك في فيلم "درامي"، بينما هو في الكواليس "بطل" وحسب، بطل يسحق بحذائه اللامع سيناريو القضية وأصحابها ليصنع من هذا المشهد فيلم جريمة جديداً لسهرتك القادمة!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.