عندما كانت الأنظمة العربية تعوم على بحر من الاستبداد والفساد، معتمدة في ذلك على عَقد اجتماعي غريب بينها وبين شعوبها المقهورة، لم تكن تحسب حساب هذه الأيام السوداء التي نعيشها اليوم، والتي لم يعد يصلح لها ذاك العَقد الاجتماعي وهي تتجه نحو أوضاع أشد سواداً. فإن كانت الشعوب ستوغل في فقرها وقهرها فإن نُخَب تلك الأنظمة على أقل تحديد ستغيب إلى الأبد وراء القضبان، أو ستقضي في السجون حين لا ينفع الندم، لكن لماذا قد تكون هذه النهاية المأساوية لهذه الأنظمة وتلك الشعوب؟
لاحظ عزيزي القارئ أن الشعوب العربية ومنذ استقلالها الصوري من الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي وهي تعيش إما على خط الفقر أو تحته بقليل، رغم أن معدلات الفقر عالمياً شهدت انخفاضاً على مدى الـ25 عاماً الأخيرة، إلا أن هذه الانخفاضات كانت تتركز في إفريقيا ودول جنوب شرق آسيا، والهند وظلّت الشعوب العربية تعوم في بحر فقرها المدقع وتخلفها.
اليوم تواجه جهود المجتمع الدولي لإنهاء الفقر أسوأ انتكاسة لها على الإطلاق بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، والصراعات، وتفشي وباء فيروس كورونا المستجد، رغم أن هذه الأسباب تواجهها جميع بلدان العالم اليوم، لكنها ستكون أشد وطأة على تلك البلدان التي تضم حكومات فاسدة ونِسَباً كبيرة من الفقراء كبلداننا العربية، لذلك ستكون الزيادة في معدلات الفقر المدقع هذه المرة خلال 2020 قياسية وضخمة، مقارنة بأي وقت مضى منذ الاستقلالات الصورية.
لكن قبل ذلك فالمشكلة الكبرى أن أنظمتنا العربية لم تُعِر أي اهتمام لظاهرة الاحتباس الحراري هذه، التي باتت تُسهم بشكل كبير في تفشي الفقر المدقع على مستوى العالم. حتى ضربت جائحة كورونا أخيراً لتزيد الأمر سوءاً، بينما لا نرى سوى الاستعراضات الأمنية والإعلامية في التصدي لكورونا من حكومات أنظمتنا العربية، وهي أيضاً حلول لا تعدو كونها استجابة لتوصيات منظمة الصحة العالمية لا أكثر، بعيداً عن الحلول الجذرية لمعضلة الفقر، ما قد يدفع بالمواطن العربي اليوم لأن يجد نفسه أخيراً وهو لا يخاف على شيء يخسره، فيما تزداد الأوضاع سوءاً جراء قصور الإدارات الحكومية وفشلها التاريخي المعروف، الذي تعرّى أكثر فأكثر أثناء هذه الجائحة، فيما لو قرر هذا المواطن الثورة على الإهمال والفساد والاستبداد وبالتالي تدمير كل شيء في طريقه.
اليوم يحاول العالم المتقدم الوقوف في وجه هذه التحديات الضخمة بجدية وصرامة، ولا يغفل أياً منها على حساب الأخرى، ونقف نحن العرب بعيدين عن كل ذلك، بينما تنهمك أنظمتنا وحكوماتنا بتأجيج الصراعات فيما بينها، وبالتركيز فقط على الجوانب الأمنية التي تضمن استمرار كبت حرية الشعوب، يقول البنك الدولي إن 40% من فقراء العالم يعيشون في مناطق الصراعات وبلدان الأنظمة الاستبدادية، ولك أن تتصور عزيزي القارئ، فالصراعات والاستبداد هما أهم سمات بلداننا العربية اليوم، وفي ظل جائحة كورونا فإنهما يدمران سبل كسب الرزق للشعوب، وخاصة تلك العوائل مدقعة الفقر، ويمنعان تدفق الاستثمارات إلى مجتمعاتها المحلية، أضِف إلى ذلك أن مسألة تغير المناخ تشكل خطراً لا ينتهي، يُهدد جهود الحدّ من الفقر، وسوف يزداد شراسة خلال السنوات القادمة حتى لو لم تكن جائحة كورونا أصلاً، فما بالك بعدها!
ويقول البنك الدولي أيضاً إن 135 مليون شخص إضافي سيَرمي بهم تغير المناخ في أتون الفقر المدقع بحلول عام 2030، ذلك أن تغير المناخ يشكل خطراً كبيراً بشكل خاص على بلدان إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا، والبلدان العربية، حيث يتركز معظم فقراء العالم وتتركز كذلك تلك الأنظمة المستهترة بشعوبها.
غير أن جائحة كورونا باتت هي الأخطر والأكثر إلحاحاً في الوقت الراهن، إذ يتوقع البنك الدولي أن تؤدي هذه الجائحة إلى زيادة كبيرة في أعداد الفقراء المدقعين، والتي قد تصل إلى 115 مليون شخص إضافي خلال 2020 وحدها، حيث إن كوفيد-19 يؤدي إلى تعطل كل شيء خلال الحياة اليومية في جميع أنحاء العالم، علاوة على ذلك كله نحن نعاني في عالمنا العربي وباقي بلدان الفقراء من عدم جدية حكوماتنا في وضع حلول ناجعة تقلل من وطأة الفقر أثناء الجائحة، وخاصة على الفئات الأشد فقراً، ما يزيد الأمر سوءاً أكثر فأكثر عن باقي بلاد العالم المحترم، اليوم نقف مصدومين ونحن نشاهد كبار المسؤولين والمتنفذين في بلادنا حين يصاب أحدهم بكورونا وهم تطير بهم طائرات الهيلوكبتر العسكرية بعيداً إلى بلدان أخرى، كي يتلقوا علاجات أفضل وأنجع من تلك التي يتلقاها باقي أفراد الشعب في بلادنا، هذا يؤكد ما نقول، بأن حكوماتنا غير جدية، وما زالت مستهترة بحياة شعوبها حتى بعد الجائحة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.