حالة من اللّاوعي الخارق القوى، يتداخل فيها حضور الأشياء، ويمتزج عالم الذّات بعالم الخارج، فينصهران عن مصيدة من الأفكار، تستحيل متاهة تجول فيها الرّوح، بدون توقّف أو موانع أو حدود بين الماضي والحاضر والآتي، بحرية مطلقة وديناميّة مستحبّة قادرة على إعادة خلق كلّ لحظة من لحظات وجودها عدداً غير محدود من المرّات، وإكسابها في كلّ مرّة رمزيّة جديدة وبعداً خارقاً للعاديّ. هذه الحالة هي ما سأدّعي أنّه الفضاء العام في سيرة حسين البرغوثي بجزأيها: (الضوء الأزرق وسأكون بين اللّوز).
حسين البرغوثي في سيرته بجزئيها مُخرج، يجلس أمام كاميرته، يستعرض مشاهد صوّرها بعين الرّوح، هو مخرج ومُشاهد لها في آنٍ، يحياها ويحكم على جودتها بعين المراقب، في الوقت الذي هي في الحقيقة حياته وهو البطل الوحيد فيها. ولا ندري ممّ هو هارب في ذلك، أمن إمكانيّة ألا تعجبه جودة الصّورة أو الأداء؟ ألذلك يجعلها تبدو كثيفة وغامضة وسريعة ومغبّشة بل وحتّى ضيّقة وبالأبيض والأسود؟
تتداعى الأمكنة في سرديّة البرغوثي. فيما هو في سياتل أمريكا، تراه يتنقّل بخفّة في أزقّة الذاكرة والحاضر، وكأنّه ينقل أحجار شطرنج على رقعة حياته، ولكنّه لاعب نزق وماكر، يعرف قواعد اللعبة جيّداً، ويعي أنّه يمسك بخيوطها بإحكام، وفي اللّحظة المناسبة سيحرّك الحجر المناسب ويبقينا على السّكة، كما ظلّ يردّد في سيرته مذكّراً ذاته بضرورة البقاء على قيد العقل.
أمكنة ثلاثة تبدو مصيدة شديدة الوثاق على قلبه البرّيّ، المعتاد على الرّكض الحرّ في القرية في فلسطين"..أقضي جلّ وقتي في سياتل متردّداً بين أمكنة ثلاثة: سينماتك الوهم العظيم وحانة القمر الأزرق ومقهى المخرج الأخير.. ولقرويّ مثلي لا يمكن فهم الغربة؛ غربته عن العالم أو نفسه"[1] ولأنّه في مصيدة دائريّة مغلقة، فإنّ الذّات ضائعة ومشوّشة ومحدودة، ما يجعل المكان – وإن حاول وضعه في حيّز- يتّخذ منحى أقرب إلى الصّور المتلاحقة في عدسة كاميرا تعرضها سريعاً، لعين تكاد لا تستطيع اللّحاق بتفاصيلها الدّقيقة، في ذاكرة تنثال وتتداعى أركانها، لتخلّف وراءها ضباباً من حجارة مكان الأنا في هذا العالم.
ينبني المكان ذهنيّاً بين أمريكا وفلسطين، وبينهما ينسحب الزّمن رخواً مع تيّار الوعي المتدفّق بسرعة الضّوء. وهو قد حكى عن رؤيته وإحساسه بالزّمن " يتكوّن من دورات، كلّ دورة تستغرق قروناً، وفي نهايتها يموت، ثمّ ينبعث من جديد في الدّورة الأخرى"[2] لذلك فحين تحضر بيروت مثلاً فجأة، بعد أن يذكر البحر، فذلك لأنّ الصّور تستدعي مثيلاتها اللّونيّة من جهة، ومن أخرى فلأنّه يحكي من بؤرة وعيه الدّاخليّ للزّمن، والحيّز المكانيّ لا شيء سوى وعيه.
هذا الوعي بشكل عامّ وبالمكان على وجه الخصوص، يشبه الضّوء، في سرعته المهولة وسعة انتشاره وتفشّيه، وهو يمتدّ أفقيّاً كخطّ مستقيم، فكأنّ نقطة بدايته هي عينها نقطة نهايته. وما بينهما من ذبذبات تشكّل في مجموعها جسماً لا كتلة له، إنّما هو ما يسمّى فونتون، أي سرعة في الانتقال. وهو إذا ما نظرنا إلى ملئه الحيّز/ المكان، فكأنّه دائرة مغلقة تلتفّ، وأيّ نقطة على محيطها هي نقطة دائرة حول نفسها ومع غيرها، ويمكن اعتبارها كلّ نقطة أخرى على الخطّ ذاته، وهي الدّائرة كلّها، وهنا تتماهى الأنا بالمكان.
كما جعل من الذّاكرة أو الخيال العنيد مكاناً لرفض الواقع وتغييره، يستحضر الأسطورة، وفيها يصير الزّمن محاولة لاستشراف الآتي. كملحمة جيلجامش التي بها فسّر كيف يصبح المكان والذّات خطراً أيضاً، في محاولة لاسترجاع شيء من كرامة شعبيّة، تأبى أن تنسحق أمام جلّادها وتضيع هويّتها في هويّته.
مرّة جديدة الأطر الضّيّقة هي رحاب أوسع من خلال مدلولاتها. الكلمات كحيّز تتأطّر فيه الذّات كهويّة وتتعرف إلى نفسها، شكلاً ضيّقة، لكنّها بإيقاعاتها ومعانيها وأضّدادها واشتقاقاتها وإشاراتها الخفيّة وما تحدثه في النّفس من أثر، تتّسع لتصبح كلّ منها كوناً صغيراً. أفلا تصبح كلمة فلسطينيّ ساعتئذٍ رقعة من وجود بحجم الكون؟
هكذا ينفلت الفضاء السّير ذاتي، في الوقت الذي هو مكان مكتنز ودقيق. وفي حين يبني عالم السّيرة من تفاصيل ذات طابع حيّزي صغير، تلملمها ذاكرة تتقصّد العشوائيّة بوعي، صاحبها غائر في رغباته وصراعاته اليوميّة، تماسه المرهق بآخر شبيه حدّ التّطابق، وغريب حدّ التّنافر، العربيّ والعبريّ، الفلسطينيّ والإسرائيليّ، جعله رحباً بدرجة لا تصدّق حتّى ليتشكّل في مسارات ضوئيّة، مهما تلاطمت موجاتها تبدو مستقيمة في مسارها قادرة على بلوغ نقطة ارتكازها كدائرة تبدأ من الأنا وتنتهي إليها فيما قد استحالت كلّ شيء.
إنّ فضاء حسين البرغوثي ومن خلال تردّد حقل معجميّ للأماكن الضّيّقة والتي اتّخذت طابعين: أحدهما ماديّ كالكرسيّ والصّالون وغرفة التّحقيق والحجر، والآخر معنويّ أو عقليّ رغم كونه ذا شكل خارجيّ ماديّ: كالذّاكرة والقلب والعقل، استحضر الاتّساع والتّفشّي واللانهائيّ من خلال استحضار الشيء بنقيضه، ومن خلال ربطه ذلك كلّه بعالم مرئيّ ومحسوس لكنّه سورياليّ وغير مدرك أو محدّد هو الضّوء الأزرق. عالم فضاء الذّات الباحثة في الحاضر عن مكان لها يليق بحضورها الفريد، الذّات الفلسطينيّة السّاعية إلى تأكيد وجودها، المصدّقة بأنّ لها حقّاً في أن تحيا كلون مهما أراد لها الآخرون أن تكون سواداً.
في الجزء الثاني من سيرته الذّاتيّة (سأكون بين اللّوز) يبدو المشهد العامّ أكثر وضوحاً وإن كان لا يتخلّى كثيراً عن لغته الملغزة. المكان بعامّة هو رام الله والزّمن عودته بعد اكتشاف إصابته بمرض السّرطان. وفي التفصيل يعود الحيّز/ المكان ينحو إلى التّذبذب أو الإشكال بين الضّيق والسّعة؛ فهو مثلاً "واقف على شفير هذا الصّدع اللامرئيّ"[3] في الدّير الجوّانيّ، فوق الخرائب ينظر إلى مستعمرة تثير تساؤلاتٍ شتّى عن ذاكرة المكان المثقلة بالتّاريخ والفارغة منه في الوقت عينه، فهي بالنسبة إلى الفلسطيني محمّلة بصوت الحكايات الشّعبيّة الغريبة كحكاية والدته عن الأفعى الزّعرة التي تطير فوق الجبال ودير عمّه النّاسك وقاطع الطّريق، بينما هي بالنّسبة إلى مستعمر جاء من روسيا أو أستونيا لن يفهم كيف لمصاب بالسّرطان أن يمشي فيها الواحدة ليلاً "لن يرى حتماً الأفعى التي تطير وتزغرد فوق الخرائب.. لن يلمس التّاريخ ولو كان عراًفاً.. ولو كان إلهاً"[4]
الزّمن هو زمن نفسيّ، يتكوّن بتكوّن الصّراع ويأخذ شكله من خلال الذّات، فإذا كان حسين البرغوثي يحكي عن الجبال التي يعشقها وهي امتداد له، يتراخى الزّمن ويتأطّر بالحكايات والأساطير التي توثّق صلته بالأرض، بكونه فلسطينيّاً ينتمى إلى خرافة المكان وحكاياته الشعبيّة، أي أنّ الزّمن يصبح زمن الحكاية وامتدادها في التّاريخ الشّفويّ لأبناء الأرض. الكون كلّه يحضر في لحظة وعي كانت تغيب عنه، فيتركزّ الزّمان والمكان معاً في إطار الوعي بتلك اللحظة " وكأنّ كوناً ثانياً لم ألحظه من قبل، ونسيته، يحضر فجأة إلى الوعي/ تفاصيل تفاصيل تفاصيل، وكأنّ كلّ فقّاعة صابون كون"[5]، الوعي هنا يصبح = المكان، يصبح المكان ملفوظاً ذا دلالة حميمة وواضحة، لأنّه يلتصق بالنفس إذا ما انتبهت إلى مكانها في العالم، المكان هنا= الموقف والرؤيا.
في الفصل الثّالث يتّخذ تماهيه مع الجبل والمكان شكلاً آخر = الغربة أو اللاعودة "عدت ولكن لم أعد/ بقعة في اللامكان. عدت ولكن لم أعد/ كلّ ليلة هكذا يطغى عليّ شعور بتخلّع المكان وتخلّع إدراكي له/ ليس هذا جبل الذّاكرة الذي أعرفه، بل أقرب إلى جبل الآلهة، جبل يحلم عرس الجنّ ويحلمني"[6] يتزامن هذا مع وصفه المرض "المرض كالزّمن يكسر الزّوايا الحادّة فينا"[7] كمقدّمة لسؤال الذّات والمآل إذ بعدها يتساءل عن علاقته بالمكان "لكلّ حكايته. وما هي حكايتي مع هذا المكان؟"، ليشير إلى توحّد المكان= النّفس "الجبل بدايتي الأولى ودفعته إلى أقصاه.. هناك سلالم الرّوح إلى سماء الحديد الفرعونيّة فاصعد".[8] الصّعود هنا مطلق من زمن لأنّه بصيغة الأمر، وهو صعود نحو الذّات، وهو حركة عاموديّة تتفلّت من جاذبيّة المكان كي تتمّ.
لو أردنا أن نحدّد من سيرة البرغوثي في جزئيها هويّة المكان ودلالته، فعلينا أن نعيد ترتيب الأحداث بشكل منتظم كما بدا من شذراتها المتناثرة في مجرّة روحه. هي مجرّة لأنّ من يتتبّع أشكال الحكي وتنوّع صيغه وما حوى من معارف وتاريخ، سينتبه إلى أنّ البرغوثي كان كوناً صغيراً يتحرّك ويحوي مجرّات وأنجماً وأعاصير كونيّة وثقوباً سوداء، وأنه بدهاء أو جنون مطلق، بوعي أم بغير وعي، كان يتحرّك في ذاته وفي المكان ويحرّكها جميعاً إلى أقصى حدود ممكنة. حدود لامرئيّة وتكاد تكون غيبيّة أو ضبابيّة لنا كمتلقّين، فيما هي واضحة جليّة لصاحبها لأنّها حركة داخليّة، تجمع صراع الذّات مع الوجود والمرض والآخر والأنا، وفي الوقت عينه حركة خارجيّة، سائرة إلى التحام مع عالم تريده وتعي بشراسة أنّها ستصل إليه حين تكون حرّة.
الحريّة، حرّية الحركة نحو الذّات، تجسّدت في حرّية المكان الذي اتّخذ حيّزاً أوسع هو الذّاكرة، حين كان في سياتل، وكتب (الضّوء الأزرق) في بعد إراديّ عن المكان= فلسطين= رام الله تحديداً، وحرّية الذّاكرة في اللّجوء إلى الماضي السّحيق وربط الذّات بالأمكنة الإنسانيّة العريقة، الضّاربة في القدم، حين كتب (سأكون بين اللوز) إذ عاد إلى المكان= الجبل= الحكايات الممتدّة في تاريخ أهله وتاريخ البشريّة أجمع. في الجبل انتفى الزّمن وتأطّر بالغياب تارة، غياب الأهل والقوّة والغريريات أي غياب الحكاية الشّعبيّة عن الحاضر= زمن إسرائيل والمستعمرات؛ وتارة بالحضور، حضور طفولة الذّات وتماهيها في أبطال الحكايات كما مع ابنه آثر الذي من خلاله عبّر عن حاجته إلى الولادة من جديد.
حين عاد إلى الماضي انفتح باب الآتي فصار الزّمن= المستقبل= السّماء، وهو زمن لونيّ، يوحّد حركة الذّات السّاعية إلى ماضيها، فيصبح دائريّاً، الزّمن= المكان= الأنا في حركة مستمرّة ونابضة وقد انتفى منها المكان= الحيّز الضّيّق الذي سيطر على الجزء الأوّل من السّيرة.
إذاً فقد تحوّل المكان بتحوّل بحث الذّات، بتحوّل رؤيتها إلى العالم ورجوعها إلى اللوز= فلسطين= رام الله، ومن هنا يمكن القول إنّ فلسطين= المكان المطلق= الحكاية= الزّمن= الذّات.
حسين البرغوثي سعى في سيرته الذّاتيّة تأصيل فكرة تماهي الذّات مع الوطن، فلا هي موجودة بدونه ولا هو غير حكاياتها.
[1] البرغوثي حسين، الضّوء الأزرق، م س، ص 11 و17.
[2] البرغوثي حسين، الضّوء الأزرق، م س، ص 27.
[3] البرغوثي حسين، سأكون بين اللّوز، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت ط1 2004، ص 37.
[4] م ن، ص 36.
[5] م ن، ص 88، 89.
[6] م ن، ص 104، 105.
[7] م ن، ص 105.
[8] م ن، ص 132.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.