بدأ الأمر في مارس/آذار 1974، وبعد معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية التي عادت للشرق الأوسط لمحاولة تقليص النفوذ الروسي بالمنطقة. أولى الخطوات الأمريكية كانت استعادة العلاقات المصرية – الأمريكية لوهجها وتميزها على كل المستويات، وأطلق السادات جملته الشهيرة: 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا.
استتبع تلك العلاقات الدبلوماسية علاقات اقتصادية وأخرى عسكرية ضخمة بين مصر وأمريكا تتجسد في معونة عسكرية هائلة وتبادل تجاري كبير.
لكن كان هناك دائماً طرف ثالث في تلك العلاقة.. إسرائيل. إذ كانت العلاقة دوماً ثلاثية تجمع مصر، الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل. وبنيت تلك العلاقة على حقيقة دور مصر في الشرق الأوسط الذي كان حينها كبيراً وكانت مصر هي رمانة ميزان السياسة في الشرق الأوسط. وكانت بوابة إسرائيل التي يدخل منها العرب إليها بعد معاهدة كامب ديفيد، فاكتسبت مصر حينها ثقلاً كبيراً ودوراً فريداً في المنطقة جعلها ذات قيمة كبيرة للأمريكان والإسرائيليين على حد سواء.
تغيرت الأمور باغتيال السادات، ودخلت العلاقة المصرية-الأمريكية في مطبات هوائية صعوداً وهبوطاً في عهد مبارك حتى وصلت لذروتها بمشاركة مصر لأمريكا في حرب تحرير الكويت. ثم تبدلت الأمور باندلاع ثورة يناير ومن بعدها انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب في عهد أوباما، حتى وصلت العلاقة لأسوأ مستوياتها، ثم جاء ترامب فكانت العلاقات في عهده ربما الأكثر حميمية تاريخياً بين الدولتين نظراً لإعجاب ترامب بالسيسي.
المعادلة الثلاثية
وبالنظر إلى معادلة (مصر، أمريكا، إسرائيل) ففي عهد أوباما كانت علاقة الرجل بنتياهو قلقة جداً وفي أدنى مستوياتها فأثر ذلك بالطبع علي الحليف الثالث، وفي عهد ترامب كانت علاقة الرجل بنتنياهو وإسرائيل علاقة الحليف الموثوق به فأثر ذلك على العلاقات مع مصر وكانت في أفضل مستوياتها على الإطلاق بين رئيسي الدولتين.
والآن وبعد إعلان سقوط ترامب وخسارته الانتخابات الأمريكية، ماذا سيحدث للعلاقات المصرية الأمريكية بعد انتهاء شهر العسل؟
تاريخياً، لم تختلف كثيراً سياسات الجمهوريين عن الديمقراطيين في إدارة العلاقة مع مصر، فثوابت وأعمدة تلك العلاقة ومحدداتها راسخة في جذور السياسة الخارجية الأمريكية.
ضمان أمن إسرائيل، ضمان سلامة وحرية حركة الملاحة في قناة السويس وضمان التدفق البترولي عبرها. وحديثاً، بعد ثورات الربيع العربي، أصبح ضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي في مصر، ومنع تدفق اللاجئين إلى أوروبا والغرب ضمن تلك المحددات.
وظلت تلك المصالح الأمريكية محفوظة ومصونة من طرف الحكام العرب حتى جاءت ثورات الربيع العربي وصعدت جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم، وكان حينها أوباما الديمقراطي هو من يحكم أمريكا. بصعود جماعة الإخوان المسلمين، وإن تعهدوا بالالتزام بكافة المواثيق والمعاهدات الدولية، لكن أصبحت تلك المصالح والثوابت معرضة للتهديد في أي وقت. فأمن إسرائيل أصبح مهدداً لأن من يحكم مصر الآن ظل طوال تاريخه ينادي بزوال إسرائيل. والطاقات الشعبية الغاضبة من إسرائيل كانت متفجرة وقابلة للاشتعال في أي لحظة. وانقطع الشك الأمريكي باليقين الإسرائيلي، بالدعم الذي قدمه الرئيس الراحل محمد مرسي لقطاع غزة أثناء حرب نوفمبر 2012 التي شنتها إسرائيل على القطاع، فذهاب رئيس الوزراء المصري هشام قنديل حينها لغزة وتقديم الدعم وتوالي الوفود الشعبية حينها أوصل رسالة لإسرائيل بأن حدودها الأهم، الغربية، في خطر.
مخطئ من يظن أن قرار الانقلاب على الرئيس مرسي في عهد الديمقراطي أوباما تم لذلك السبب فقط. هذا فهم ناقص وتسطيح متعمد للقضية والحالة بأكملها. فمن دبر للانقلاب على الثورة كان يدرك حينها أن انقلاباً خشنا لن يقابل بترحيب من الإدارة الأمريكية الديمقراطية حينها، فرتب الأمر على شاكلة ثورة تصحيحية للثورة الأولى التي انزلقت لأيدي الإسلاميين.
بدأ المشهد بأنه انقسام حاد في المجتمع المصري يقف على جانبيه متضادان، فجانب الإخوان كانت القوى الإسلامية بتنويعاتها، والجانب الآخر يقف فلول الحزب الوطني والقوى الموالية للجيش والقوى المدنية.
استطاع من كان يدير المشهد حينها استغلال انتهازية الجميع وتوقهم لأخذ قطعة من تورتة الحكم والسلطة التي تركها النظام القديم، وأظهر للداخل والخارج انقساماً كان قد حدث بالفعل بين القوى السياسية في الداخل المصري.
واجتهد الكثير من رموز القوى المدنية حينها في تسويق ذلك المشهد للخارج بشكل مكثف جعل أي قوى تأخذ موقفاً حيادياً تظهر كأنها تقف في الجانب الخطأ بجوار الرجعية والظلام.
هذا هو السبب الرئيسي في تمرير الانقلاب في عهد الديمقراطيين، حيث تم تهديد ثوابت السياسة الأمريكية في المنطقة. فهذا الانقسام الشعبي الحاد والاستقطاب السياسي تم تسويقه على أنه تهديد لأمن إسرائيل، وفي نفس الوقت قد ينذر باندلاع حرب أهلية تدفع بملايين المهاجرين نحو الغرب.
وعند تهديد تلك الثوابت الأمريكية والغربية، لن يكون هناك فرق كبير بين الإدارة الديمقراطية والجمهورية.
كراسي ونيران
لكن يلح الآن سؤال مفاده: هل بالفعل ستتأثر مصر بعودة الديمقراطيين مرة أخرى للحكم؟
المتابع للأحداث عن قرب يرى تغيراً كبيراً في المشهد المصري، فالإجماع الشعبي الذي كان يحظى به نظام الحكم قد تفكك على مدار السنوات القليلة الماضية، وصار حلفاء النظام القدامى ضجرين من السياسات الاقتصادية والخارجية، وأصبح المشهد بالداخل المصري أكثر قابلية للاشتعال من ذي قبل. ولو اختفى القمع الأمني لـ24 ساعة لخرج الغضب في الشوارع معبراً عن نفسه بطريقة لن تروق لحكام مصر أو رعاتهم الدوليين والإقليميين. صارت روح النظام الحالي معلقة بمجهودات وزارة الداخلية ومؤسسات القمع المصرية، بعدما فشلت كافة استراتيجيات النظام الإعلامية والاجتماعية في احتواء ووقف تدهور الأحوال المعيشية للمصريين.
الأمر الآخر، تعتمد، تاريخياً، الأنظمة شديدة المركزية في إدارة الدولة على أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، ولذلك يكون تأثير التحالفات والولاءات الشخصية فيها كبيراً، فلو ذهب مَن أبرم معه التحالف في الأصل، وجاء آخر فعليه إما إعادة التحالف من جديد أو نقضه من الأساس وبسقوط المركز تتأرجح الدولة كلها، حدث ذلك في عراق صدام وفي مصر مبارك وفي ليبيا القذافي.
نعم ستتأثر الأنظمة السلطوية الشخصية كلها، وليس مصر فقط تأثراً أراه كبيراً بعودة الديمقراطيين الذين قد يحاولون السير خارج الطرق الترامبية، وحينها قد يعيدون تشكيل خريطة تحالفات المنطقة برمتها عن دون قصد بضغطهم على حكام يبدون مستقرين، لكن تحت كراسيهم حرائق لم تشتعل بعد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.