ما من شك أن السياسة الخارجية الأمريكية في عهد جو بايدن سيكون لها طابعها الخاص الذي يبتعد عن المفردات التي اعتمدها عهد الرئيس دونالد ترامب في توجيه رؤيته للسياسة الخارجية، فالتصريحات التي أعلن عنها بخصوص عدد من القضايا الخارجية، فضلاً عن النقد الذي وجهه لسياسة ترامب، تشير إلى هذا المعنى.
يهمنا بهذا الخصوص المنطقة العربية، وما يتفاعل داخلها من تجاذبات إقليمية تخص الدورين التركي والإيراني، والشكل الذي تتمثل به أمريكا علاقاتها الخارجية المفترضة مع الأنظمة العربية، والمحددات التي ستعتمدها لتأطير علاقاتها الخارجية مع تركيا وإيران.
بدءاً، نشير إلى أن الديمقراطيين يميلون دائماً إلى نسج سياستهم الخارجية بمنوال واحد ينتظم كل القضايا، فإنتاجهم لفكرة دعم التحولات السياسية في الوطن العربي قبيل لحظة الربيع العربي، كان يعكس نظاماً شاملاً، يغطي محور التعامل مع الأنظمة العربية الاستبدادية، ويغطي في الوقت ذاته علاقة أمريكا بالقوى الإقليمية في المنطقة، بل يغطي أيضاً شكل تعاطيها مع القوى السياسية الإصلاحية في المنطقة العربية.
اليوم، يصعب أن نتوقع استعادة نفس النظام في إعادة تأطير السياسة الخارجية الأمريكية لهذه المحاور، وذلك لسببين أساسيين: أولهما أن أمريكا لا تزال تحتفظ بذاكرة الربيع العربي بكل مخاضاتها وتحولاتها، بل وبكل مخاطرها أيضاً. وثانيهما أن المعادلة العربية تغيرت كثيراً، سواء على مستوى بنيتها الداخلية، أو على مستوى حضور الفاعل الإقليمي فيها، أو على مستوى قدرة الدور الأمريكي على التأثير فيها. فثمة انقسام خليجي حاد يصعب معه تصور مجلس التعاون الخليجي كفاعل سياسي موحد، وثمة في المقابل، اصطفاف أكثر منه حدة، نشأ على الخلفية الديمقراطية، والموقف من القوى الإصلاحية الديمقراطية (الموقف من الحركات الإسلامية، وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين)، وثمة في المستوى الثالث، دور تركي يتقوى في أكثر من منطقة (شرق المتوسط، القوقاز، سوريا، العراق)، وفي المقابل، ثمة دور إيراني يتراجع أو يقل تأثيره الإقليمي (سوريا، لبنان، العراق…) بسبب تأثيرات الحصار عليها ولجوء الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبئير مناطق التمدد الإقليمي لإيران.
يصعب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تستعيد نفس النظام المتمحور على أطروحة دعم التحولات السياسية، لأنها لن تجد التوليفة الأساسية للجواب عن تعقيدات الوضع، فهذا النظام يفرض عليها أن تضع السعودية والإمارات والبحرين في دائرة الضغط السياسي، وربما دائرة التحول السياسي، كما هو الشأن في الحالة السعودية، وهذا ما سيجعلها تعدل عن لوازم أطروحة ترامب كلها، التي تقوم على دعم الأنظمة الاستبدادية، والارتكاز على مفهوم الأمن القومي، لخوض صراع مع إيران، وتبرير التحالف الاستراتيجي مع السعودية.
في السياق الجديد، سيكون على أمريكا أن تختار بين وضع الدول الاستبدادية في دائرة الضغط وفي الوقت ذاته نسيان أطروحة الأمن القومي للدول الخليجية، والانفتاح بذلك على إيران، وعقد اتفاق نووي جديد معها، وتحويل البوصلة الاستراتيجية تجاه تركيا لتقليص نفوذها الإقليمي المتمدد، وبين الاستمرار في نفس سياسة ترامب مع الدول الاستبدادية، وإبقاء إيران تحت دائرة الحصار والمراقبة، وإنتاج صيغة للضغط الحذر على تركيا، لإضعاف تمددها الإقليمي، دون الخروج من منطق التحالف التقليدي معها.
التقدير أن الخيارين معاً لا يتمتعان بأي قبول بالنظام الديمقراطي الأمريكي، فالعلاقات مع السعودية والبحرين والإمارات ومصر بالشكل الذي نسجته إدارة ترامب أضرت كثيراً بسمعة أمريكا وصورتها الديمقراطية في العالم، وأمريكا بايدن لا يمكن أن تتحمل المضي في هذا الطريق، لكن في الوقت ذاته، هي تدرك أن الخيار المقابل يخدم طرفين إقليميين، إيران من جهة، وتركيا من الجهة المقابلة، والمشكلة أن الإدارة الأمريكية لا تملك خيار تدبير التناقض بينهما، فهي لا تستطيع أن تضع بيضها كله في سلة إيران، لأنها تدرك مراميها الاستراتيجية، بل خبرت الدور الذي أقامت به أذرعها الإقليمية في المنطقة، وفوق هذا وذاك لا تريد أن تدخل في خانة الخلاف الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، وفي المقابل، هي لا تستطيع أن تغض الطرف عن الدور الإقليمي المتمدد لتركيا في المنطقة، بل لن يكون بوسعها أن تتحمل أثر سياستها تجاه دول الخليج، إن راهنت على قضية التحولات السياسية فيها، إذ بالإمكان أن ترتبك خارطة التحالفات، فتتجه إلى خيارات غير متوقعة، كأن تتجه السعودية إلى إصلاح علاقاتها مع قطر وتركيا، وتتحلل من أطروحة مناهضة الإسلاميين، وتجعل من تركيا محدداً أساسياً لأمنها الإقليمي المهدد أمريكياً وإيرانياً.
معنى ذلك أن أي رهان على الضغط على الدول الاستبدادية لن يكون مجدياً إذا كان من لواحق هذا الخيار استهداف تركيا أو محاولة إضعاف قدرتها الإقليمية، كما أن الرهان على إيران ستكون كلفته استعادة أذرعها الإقليمية لفاعليتها في المنطقة وتوتر العلاقة مع الكيان الصهيوني.
ولذلك، سيكون على الولايات المتحدة الأمريكية أن تختار الصيغ التي لا تذهب بها إلى المدى الأبعد، وذلك سواء في علاقتها مع الدول الاستبدادية أو إيران أو تركيا، وذلك لن يتأتى إلا بمعادلة الضغط على الأولى (الدول الاستبدادية) دون الوصول معها إلى درجة القطيعة، والانفتاح على الثانية (إيران) دون الوصول إلى الدرجة التي تستفيد فيها إيران من الوضع الجديد في تحريك أذرعها الإقليمية في المنطقة، ومع الثالثة (تركيا) في الدخول معها في منطقة الصراع المنخفض التوتر دون الاضطرار إلى فقدان تحالفها التقليدي معها.
ما يؤكد ذلك أن تركيا تمتلك جزءاً مهماً من مفاتيح اشتغال النظام الديمقراطي المؤطر للسياسة الخارجية الأمريكية، فهي من جهة داعمة للتحولات السياسية والديمقراطية في العالم العربي إلى الدرجة التي تنظر إليها الدول الاستبدادية على أساس أنها المؤيد الأول للإسلاميين، وهي من جهة ثانية، المناوئ للسياسات الاستبدادية في المنطقة، وهي من جهة ثالثة، الفاعل الأساسي الذي يسكن بؤرة التوترات الاستراتيجية الأمريكية الروسية، سواء في سوريا، أو ليبيا، وهي قبل هذا وذاك، الفاعل الذي تؤهله الجغرافية السياسية لامتلاك أوراق ضغط استراتيجية تستعملها في وجه أمريكا والاتحاد الأوروبي على خلفية الهجرة ومواجهة الإرهاب.
لذلك، يميل التقدير إلى أن أقصى ما يمكن أن تفكر فيه السياسة الأمريكية تجاه تركيا، أن تستمر في سياسة الإضعاف الاقتصادي والمالي والنقدي لتركيا، وهذا يقتضي منها تعاوناً خليجياً واسعاً، وأن تحافظ على تحالفها التقليدي مع تركيا، وفي الوقت ذاته أن تحرك ورقة دعم حزب العمال الكردستاني، أي اختيار صيغة عدم الذهاب إلى المدى البعيد وترك حد أدنى من العلاقات التي تسمح لها بتشغيل هذا الخيار.
لكن هذا الرهان، هو الآخر، يصعب ضمان فاعليته، لأن الاستراتيجية التركية تعتمد بالأساس قضية استهداف حزب العمال الكردستاني، وقدرته واصطفافاته الإقليمية ضمن محددات سياساتها الخارجية، بل تجعل تكتيكاتها التحالفية في أكثر من منطقة مبنية على هذا المحدد، وهو ما يعني استعمال سلاح قوي، لا تستطيع أمريكا أن تصمد في مقاومته، لأن ذلك يهدد توازناتها الاستراتيجية في أكثر من منطقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.