منذ أربع سنوات، بعد فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في انتخابات عام 2016، في مفاجأة مدوية آنذاك، كتبتُ عبر هذه المنصة عن الظاهرة الترامبوية وتغييرها لقواعد السياسة المتعارف عليها، حيث الاحتفاء بكسر القواعد الذي يصل إلى الفجاجة وانعدام اللياقة، والاحتفاء بالتنمر السياسي، وتراجع السياسة البرامجية المبنية على المبادئ أو المصالح لحساب سياسات انفعالية مبنية على الشعارات الرنانة "فلنجعل أمريكا عظيمة من جديد"، والتي تخاطب غرائز الجماهير الأولية، مثل الاستعلاء، أو الكراهية، أو الخوف. وكما كان فوز ترامب الانتخابي صاخباً فإن هزيمته الانتخابية لا تقل صخباً، وكما أعطانا فوز ترامب دروساً عديدة حول تغير قواعد الممارسة السياسية فإن هزيمته أيضاً مازالت تعطينا دروساً هامة عن خطر الشعبوية.
في الديمقراطية الأثينية، منذ أكثر من 2500 عام، كان هناك وعيٌ بخطورة الديماجوج "الشعبويين"، والذين يشوش منطقهم وخطبهم على التفكير العقلاني بتهييج مشاعر الجماهير، وكانت الغطرسة (إزاء القوانين والقواعد السياسية المتبعة) أو ما كان يسمى Hubris جريمة يعاقب عليها القانون، وكانت العقوبة تصل إلى النفي لعشر سنوات خارج أثينا، بما يتماشى مع تقديرهم للأثر المخرب لهذا السلوك على استقرار وسلامة المجتمع السياسي.
سريعاً، بعد إعلان النتائج الانتخابية الأولية للانتخابات الرئاسية، شرع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اتباع استراتيجيات متهورة لمواجهة هزيمته التي باتت محققة، هذه الاستراتيجيات يمكن إيجازها في ثلاث نقاط:
– استراتيجية "تظَاهَر بالشيء حتى تحققه" أو Fake it till you make it، فالمنشورات المستمرة على حسابه بمنصات التواصل الاجتماعي التي تؤكد فوزه، بل وتصريحه الإعلامي شبه الرسمي بالفوز قبل انتهاء عملية الفرز، وتجاهُل النتائج التي أظهرت هزيمته وعدم الاعتراف بها هي محاولة لخلق حالة أمر واقع بانتصاره، بحيث يصبح مطلوباً من الطرف الآخر أن يفندها هو.
– استراتيجية التوريط، سواء لقيادات الحزب الجمهوري، أو لأعضاء فريقه الرئاسي الذي يتولى مناصب قيادية في مؤسسات الدولة، بوضعهم بين خيارين عسيرين، إما الالتزام باستراتيجيته المبنية على إنكار وتجاهل نتائج الانتخابات في كسر للأعراف المتبعة وإهانة صريحة للديمقراطية الأمريكية، أو إظهار الحزب الجمهوري بمظهر المنقسم أمام أنصاره وخصومه على حد سواء، وتعريض العاملين بإدارته لخطر الطرد والوصم بأنهم غير منضبطين بقرارات الرئيس كما تفرضه مقتضيات عملهم.
– الاستراتيجية الثالثة تتمثل في تحريك الجماهير ضد المؤسسات، فالشعبويون يفضلون أن يُظهروا أنفسهم كثائرين على القواعد والمؤسسات، وكمعبرين عن إرادة الجماهير الذين تمت مصادرة إرادتهم أو تجاهلها لصالح قلة تتحكم في وضع هذه القواعد وإدارة هذه المؤسسات.
وكلما كانت عملية تدوير النخبة في النظام السياسي محدودة، وكلما كانت هذه المؤسسات غير ممثِّلة بشكل كافٍ والقواعد غير منصفة، وكلما كان تبرم الجماهير من النظام السياسي كبيراً، وجد الشعبويون مصداقية وتأييدا لتوجههم هذا. وبالتالي، فإن محاصرة أنصار الرئيس ترامب لبعض مقارّ الاقتراع بالأسلحة كاستعراض للقوة، والدعاوى المستمرة للحشد في الشوارع ضد نتيجة الانتخابات هي محاولة لوضع الجماهير في مواجهة المؤسسات، وهو ما قد ينتج عنه نتائج غير محسوبة، إما بتفجر العنف إذا لم تستجب هذه المؤسسات لمطالب الجماهير، أو الأخطر من ذلك أن يبدأ المعسكر الآخر في تحريك جمهوره لموازنة القوى، وهو ما ينقل الجدل السياسي إلى الشارع، ويُظهر محدودية المؤسسات والقواعد القائمة في احتواء الشأن السياسي وإدارته، في واحدة من أكثر الديمقراطيات رسوخاً في العالم.
من المتوقع أن تمر أزمة الانتخابات الرئاسية الأمريكية آجلاً أم عاجلاً، لكن الأثر الذي ستُحدثه هذه الأزمة في نظام سياسي مأزوم بالفعل منذ مدة ليست بالقصيرة سيكون ممتداً، كما أن ما كشفته تجربة انتخاب ترامب ثم عدم انتخابه لاحقاً من مدى هشاشة الديمقراطية الليبرالية، ومدى تخلفها عن الوفاء بعهودها بالعدالة والاستقرار السياسي يحفز المجتمعات السياسية أن تفكر في صيغ أخرى تكون أكثر فاعلية وأكثر مبادئية على حد سواء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.