الآن وقد فاز جو بايدن بالرئاسة، يمكننا توقّع بروز نقاشات بشأن ما إن كان دونالد ترامب يُمثِّل انحرافاً (لا يمثل حقيقتنا) أم أنَّه تجسيد آخر لأمراض أمريكا وخطاياها. ويمكن للمرء أن يبرهن بشكل معقول على تجذُّر ترامب في التقاليد الأمريكية، وفي الوقت نفسه أيضاً الإشارة إلى شذوذه: التغريد في الصباح، والولع بخلط ما هو شخصي بما هو حكومي، والهوس بالتقييمات على نحوٍ يلائم كونه أحد نجوم تلفزيون الواقع، العمل الوحيد الذي يحسنه.
لكن من منظور دولي، ترامب ليس أكثر من كونه مثالاً آخر على الشعبويين الكثر على اليمين الذين صعدوا إلى السلطة حول العالم: ناريندرا مودي في الهند، وجايير بولسونارو في البرازيل، وفيكتور أوربان في المجر، وفلاديمير بوتين في روسيا، وياروسلاف كاتشينسكي في بولندا. فاز هؤلاء بالانتخابات، لكنَّهم أفسدوا القواعد الديمقراطية: بتجريم المعارضين، وقمع أو شيطنة الإعلام، ومضايقة المعارضة، وتوظيف آليات خارج نطاق القانون متى كان ذلك ممكناً (يميل معارضو بوتين لمواجهة حوادث مروعة). ويستخدم أوربان بفخر عبارة "الديمقراطية غير الليبرالية" لوصف الشعبوية التي يمارسها أولئك الرجال، ويملك ترامب أوجه شبه كثيرة معهم، في خطابهم أو من حيث سياساتهم.
وقد أقام حملته الانتخابية مثلهم أيضاً، فانتقد ذلك النمط الخاص من العولمة الذي يهيمن على عصرنا هذا وجلب منافع للكثيرين لكن دون تناسب مع ذوي الثروات، متجاوزاً وراءه أعداداً كبيرة من الناس، لاسيما في البلدان الأكثر ثراءً. واعتمد على فكرة "Herrenvolk – الجنس السامي" التقليدية للشعبوية القومية الإثنية: تدعيم شكل ما من دولة الرفاه، لكن للأشخاص "المناسبين" فقط وليس للآخرين غير المستحقين (المهاجرين والأقليات)، الذين يُزعَم أنَّهم يغتصبون تلك المنافع. وقد وجَّه وأجَّج عدم الثقة واسعة النطاق في الكثير من المؤسسات الديمقراطية الليبرالية الوسطية (لاسيما الصحافة)، تماماً مثلما فعل الشعبويون الآخرون. وهلم جرّا.
لكنْ هناك اختلاف رئيسي بين ترامب وأي شخص آخر على قائمة الشعبويين هذه. فالآخرون كلهم سياسيون موهوبون يفوزون بالانتخابات المرة تلو الأخرى.
في المقابل، ترامب هو نجم بتلفزيون الواقع تمكن من شق طريقه صدفة إلى الحياة السياسية الأمريكية في فترة تشهد فيها عملية إعادة اصطفاف مستمرة، ساعدته في ذلك سلسلة من الأحداث الخاصة بعام 2016 وكان سعيد الحظ لحدوثها: اختيار الديمقراطيين مرشحة استقطابية لم تكن تملك اللمسة السياسية الضرورية التي يمكن أن تأتي من اجتياز انتخابات صعبة، وكانت مواقع التواصل الاجتماعي بحلول هذه الفترة متجذرة بعمق في الحياة السياسية في البلاد، لكنَّ آثارها المدمرة كانت بلا ضابط إلى حد كبير، واتخذ العديد من اللاعبين –مثل مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) آنذاك جيمس كومي- إجراءات كان لها تداعيات بدافع من ثقتهم التي كانت في غير محلها في انتصار هيلاري كلينتون، وتقليل منافسي ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري من شأن الرجل. لقد كان محظوظاً بشدة.
لا يعني هذا أنَّه يفتقر إلى الموهبة تماماً. فقد جعلته تجمعاته الانتخابية يرتبط بقاعدته الجماهيرية ويختبر بعض الرسائل مع هذه الحشود ثُمَّ يُقدِم على تضخيمها على نطاق أوسع بعد ذلك. ولديه إدراك فطري بالقوة التي يوفرها التركيز، وتلاعَبَ بوسائل الإعلام التقليدية بمهارة، وقد استفادت وسائل الإعلام بدورها من سلوكياته الغريبة، التي عززتها هي نفسها. ومن الواضح أيضاً أنَّه شعر باللحظة السياسية في 2016، ونجح في اجتياز طريقه وصولاً إلى الرئاسة، ولو أنَّ هذا يتعلَّق بفطرته أكثر منه بالتخطيط العميق.
لكن بوضع الحظ جانباً، لا يجيد ترامب وظيفته. ولا يبدو حتى أنَّه يحبها كثيراً. فهو غير منضبط وحساس للغاية لدرجة تعيقه عن أن يكون فعَّالاً في السياسة على مدى فترة طويلة، وهو الأمر الذي يتضمَّن الفوز بالانتخابات المتكررة. ويبدو أنَّه كان متفاجئاً تماماً كأي أحد آخر بفوزه في 2016. وفي حين أنَّه يكره وصف الخاسر الذي سيلحقه الآن، فالغالب أنَّه لا بأس لديه بالنتيجة، لاسيما أنَّ بإمكانه إلقاء اللائمة فيها على المؤامرات الخيالية التي تتضمن السرقة أو الغش في بطاقات الاقتراع أو المحاكم، طالما كان قادراً على الإفلات من المحاكمات الجنائية التي من المؤكد أنها ستواجهه مستقبلاً. (العفو عن نفسه؟ التفاوض على عفو؟ سيحاول عمل شيءٍ ما).
ترشَّح ترامب كشعبويّ، لكنَّه كان يفتقر إلى الموهبة السياسية أو الكفاءة للحكم كشعبويّ ناجع. أتتذكرون "أسبوع البنية التحتية" الذي وعد به؟ لم يتحقق أبداً. أتتذكرون الحروب التجارية مع الصين التي قال إنَّه سيفوز فيها؟ جرى رفع بعض التعريفات هنا وهناك، لكنَّ الوظائف التي كان من شأنها أن تجلب الارتياح إلى قطاع التصنيع الأمريكي المنهك لم تنتعش أبداً.
أعلن الرئيس في ولاية ويسكونسن عام 2018 عن "عجيبة العالم الثامنة"، وهي مصنع تابع لشركة Foxconn كان من المفترض أن يُوظِّف 13 ألف شخص مقابل 4.5 مليار دولار من الدعم الحكومي. مع ذلك، ظلَّ المبنى فارغاً مع بدء هذه الانتخابات، وخسر الرئيس أصوات ويسكونسن في المجمع الانتخابي.
(وظَّفت شركة Foxconn أشخاصاً في الأسابيع الأخيرة من 2019 لاستيفاء حصصها من الدعم، وسرَّحت الكثيرين منهم بعد بدء السنة الجديدة مباشرةً). يستخدم معظم الشعبويين في العالم شبكات رعاية واسعة: إنفاق الدولة الذي يعزز داعميهم. وظلَّ نموذج ترامب مرتبطاً أكثر بابتزاز المال الشخصي: شجَّع ترامب الأشخاص على البقاء في فنادقه وتناول العشاء في منتجعه "مار آلاغو" مقابل قدرتهم على الوصول إليه، بدلاً من تطوير شبكة واسعة وتشاركية من شأنها أن تبقى موالية له لسنوات.
وحين حلَّت الجائحة، تخبَّط ترامب بدلاً من الارتقاء لمستوى الحدث والاضطلاع بدور الرجل القوي وحشد البلاد خلال أزمة بدأت في الصين، وهي فرصة مثالية لذلك النوع من الشعبويين الذين يتطلَّع ليصبح مثلهم.
يتولى أردوغان السلطة على الصعيد الوطني منذ عام 2003. وبالرغم من مرور الكثير من الوقت يُعَد من بين أكثر السياسيين موهبة في تاريخ تركيا. وتمكَّن من اجتياز العديد من التحديات، بما في ذلك الأزمة المالية العالمية. وفي روسيا، فاز بوتين بالعديد من الانتخابات، بل وتمكَّن من إلغاء القيد الخاص بعدد الولايات الرئاسية. وفي الهند، أُعِيد أيضاً انتخاب مودي. ويمكن للمرء أن يجادل بأنَّ تلك الانتخابات كانت بعيدة عن كونها مثالية، لكنَّها تظل انتخابات. وأفسد الرئيس البرازيلي بولسونارو تعامل بلاده مع الجائحة، لكنَّه يُوفِّر للفقراء المساعدة الطارئة ويزيد شعبيته. وقدم قانون كيرز (قانون مكافحة فيروس كورونا ودعم جهود الإغاثة وتعزيز الأمن الاقتصادي) الأمريكي الشيء نفسه، وقدَّم دعماً كبيراً للشركات وحسَّن الأوضاع المالية للأسر، لكنَّه انتهى قبل الانتخابات مباشرةً، وغرَّد ترامب على نحوٍ غريب بأنَّه عرقل التوصل إلى اتفاق جديد.
وأشك بأنَّ القيادة الجمهورية متفائلة، إن لم تكن سعيدة، بخسارة ترامب. فمن المذهل كم كانت شبكة Fox News سريعة في إعلان حسم بايدن لولاية أريزونا، وعدد القادة الجمهوريين الذين أدانوا التغريدات الغاضبة للرئيس ومحاولاته وقف فرز الأصوات. إنَّهم يعلمون أنَّ ترامب انتهى، ويبدو أنَّهم لا بأس لديهم في ذلك. فما الذي قد لا يعجبهم؟ إذ باتت المحكمة العليا الآن في صفهم بقوة، وسيحتفظون على الأرجح بسيطرتهم على مجلس الشيوخ، وفاز جمهوريو مجلس النواب بمقاعد أكثر مما كان مُتوقَّعاً، ويتطلَّعون لتحقيق مكاسب كبيرة في مجالس نواب الولايات كذلك، الأمر الذي يمنحهم سيطرة على عملية تقسيم الدوائر للانتخابات المقبلة. بل ومن الأفضل بالنسبة لهم على المدى الطويل أنَّهم عززوا تحالفهم، فبات لديهم المزيد من المرشحات من النساء والمزيد من الدعم بين الناخبين من غير البِيِض.
ولديهم في متناولهم ميزات يمكنهم استغلالها: فالمجمع الانتخابي وخصوصاً مجلس الشيوخ مؤسستان عصيتان على حكم الأغلبية، ويمكن جمعهما بجهود أخرى لإفساد حكم الأغلبية. ويمكن للقادة والأحزاب المشاركة في قمع الناخبين وكسر القواعد من خلال درجة معينة من التعاون بين الحزبين عبر مستويات الحكومة.
وتسمح تلك الميزات، معاً، للاعبين بالانخراط في نوع صارم من حكم الأقلية: تذكروا أنَّه لا يوجد رئيس جمهوري فاز بالتصويت الشعبي منذ عام 2004، وأنَّ مجلس الشيوخ يميل هيكلياً إلى الخضوع لسيطرة أقلية. مع ذلك، يتمتع الجمهوريون بسلطة هائلة. وتحدث هذه الدينامية على المستوى المحلي أيضاً، إذ يسمح التلاعب بتوزيع الدوائر الانتخابية للجمهوريين بتضخيم تمثيلهم في المجالس التشريعية للولايات. (يشير مصطلح قمع الناخبين إلى استراتيجية تُستخدَم للتأثير على نتيجة التصويت من خلال إعاقة أو تثبيط مجموعات معينة عن التصويت لطرف معين أو تقليل أعداد الناخبين المصوتين لهذا الطرف بسبل أخرى غير الإقناع وتغيير الرأي).
بعبارة أخرى، يُعَد هذا الوضع بنية مثالية لسياسي "موهوب" كي يترشح على أساس "الترامبية" في 2024. شخص بدون ذلك الحماس لنشر التغريدات أو سلاسل الفنادق الجشعة، شخص لديه ميل للحكم وليس للعب الجولف. شخص لا يُغضِب كل مَن لا يحبونه بالفعل، شخص تنظر إليه زوجته بحب بدلاً من إبعاد يده مراتٍ ومراتٍ كثيرة جداً في العلن.
شخص لا يتباهى بالاعتداء على النساء بصورة موثقة، ويقول العبارات المناسبة عن قدامى المحاربين. شخص يمكنه إرسال التعازي الملائمة عن أعضاء مجلس الشيوخ الذين يتوفون، بدلاً من إغضاب ناخبي ولاياتهم، مثلما فعل ترامب مع أريزونا مُتسبِّباً في الضرر لنفسه ربما. رجل قوي مُخرِّب للقواعد ويمكنه تكوين أغلبية دائمة والحفاظ على تماسك تحالفه للفوز بالمزيد من الانتخابات.
لكن لا تخطئوا الظن؛ فمحاولة تسخير الترامبية –بدون ترامب، لكن في وجود موهبة سياسية متروية ومصقولة وأذكى- آتية. ولن يكون من السهل جعل الشخص الترامبيّ المقبل رئيساً لولاية واحدة فقط. فلن يكون أخرق أو ضعيفاً بنفس القدر. وسيصل إلى المنصب بمهارة أكثر منه بالحظ. وربما سيكون ذلك هو السيناتور جوش هاولي، الذي يكتب كتاباً ضد شركات التكنولوجيا الكبرى، لأنَّه يعلم أنَّ هذا سيكون الفصل المقبل في الحروب الثقافية، في ظل انضمام شركات التواصل الاجتماعي إلى "الأخبار الزائفة" ليمثلا معاً العدو. وربما يكون السيناتور توم كوتون، الذي قد يترشح كزعيم يتمسك بالنظام والقانون مع نزعة شعبوية.
وربما يكون شخصية إعلامية أخرى، مثل تاكر كارلسون أو جو روغان، وكلاهما يتمتعان بموهبة وأتباع. وربما قد يكون نسخة أخرى من سارة بالين –التي كانت نموذجاً أولياً لترامب- تتمتع بكاريزما وقبول لكن من دون الحمولة التي تُثقِل بالين والحاجة لوجود مرشح رئاسي يختارها للترشح معه فجأة (اختارها جون ماكين للترشح معه على بطاقة نائب الرئيس في انتخابات 2008). وربما يكون شخص مثل النائبة المنتخبة عن ولاية كولورادو والمؤمنة بمجموعة QAnon لورين بويبرت، التي هزمت أولاً النائب الجمهوري التقليدي في الانتخابات التمهيدية ثُمَّ خاضت سباق ترشحها بقوة وبدون كمامة وفازت في مواجهة المرشح الديمقراطي، وهو أستاذ جامعي متقاعد تجنَّب القيام بحملة انتخابية تعتمد على التجمعات الشخصية. في الواقع، غالباً قد يكون لشخص كاريزمي عصامي يظهر من العدم فرصة أفضل من الكثير من الشخصيات المنتمية للمؤسسة التقليدية في الحزب.
ما الذي يمكن عمله؟ أولاً وقبل كل شيء، علينا إدراك طبيعة المشكلة وتقبُّل أنَّ إخفاق النخبة لا يمكن معالجته بالمزيد من نفس النهج. غُلِّفَ جزء كبير من رسالة الحزب الديمقراطي بالحنين إلى الماضي. لكن عودة الشعبوية مجدداً هي عَرَض لإخفاقات الماضي. ولن يخرجنا التحسُّر على الماضي من هذا الوضع. نعم، من المهم تسليط الضوء على قيمة القواعد والدعوة لاستعادة المؤسسات الديمقراطية.
لكن ما نحتاجه للمضي قدماً يتجاوز إظهار المزيد من الأدب والخطاب الملائم. فلا ينبغي التوق إلى إخفاقات الماضي، بل ينبغي تجنُّبها، والأهم، فهمها وإصلاحها. سيكون هناك جدالات بشأن كيفية إعادة بناء حياة سياسية يمكنها أن تلائم اللحظة، وكيفية التأهب من أجل المستقبل. وينبغي أن تحصل هذه الجدالات. لا يمكن حل أزمتنا الأمريكية في مقال واحد شامل يقدم حلولاً سهلة. لكنَّ الخطوة الأولى هي إدراك كم أنَّ هذه الهوّة عميقة بالنسبة للديمقراطيات حول العالم، بما في ذلك ديمقرطيتنا، وإدراك أنَّ ما ينتظرنا ليس عودة سهلة من نوعٍ ما.
في الوقت الراهن، يخاطر الحزب الديمقراطي بالاحتفال بخسارة ترامب والمضي قدماً، وهذا خطر شديد، خاصةً لأنَّ الكثير من جماهير الحزب، الجماهير التي تسبَّبت في دفع ترامب نحو الخسارة، منهكة، وهو أمر مفهوم. وفي الغالب يبدو الحصول على قيلولة سياسية لبضع سنوات أمراً مغرياً للعديد ممن عارضوا ترامب، لكن الرسالة الحقيقية ليست أنَّ ترامب خسر والديمقراطيين فازوا، بل إنَّ سياسياً ضعيفاً بلا موهبة خسر، في حين رسَّخ بقية حزبه سلطته على كل أفرع الحكومة الأخرى؛ وهذه هي البنية المثالية كي يظهر شخص يميني شعبوي موهوب ويكتسح طريقه إلى الرئاسة في 2024. ولا تخطئوا الظن: كلهم يفكرون بهذا.
– هذا الموضوع مترجم عن مجلة The Atlantic الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.