لم يكن الترقب لمعرفة السيد الجديد للبيت الأبيض حكراً على مواطني الولايات المتحدة الأمريكية، فمنذ نحو قرن من الزمان باتت الانتخابات الأمريكية حدثاً يجذب انتباه الكثيرين حول العالم. ومع إعلان النتائج الأولية والتي أظهرت تقدماً يمكن وصفه بالكبير للمرشح الديمقراطي جوزيف بايدن على الرئيس الحالي دونالد ترامب، سادت حالة من الارتياح في أغلب بلدان العالم والتي لم يكن من ضمنها ثاني أكبر اقتصاد في العالم والمنافس الجيوسياسي لأمريكا في الوقت الراهن "الصين"، والتي حرصت خلال فترة الانتخابات على تجنب الحديث عن دعمها لأحد المرشحين، لكن هذا لا ينفي اهتمامها بالانتخابات الأمريكية ونتائجها والتي ستُحدد مسار العلاقات الثنائية بين البلدين خلال السنوات الأربع المقبلة.
وعلى الرغم من أن الموقف المتشدد تجاه الصين مثل إحدى القضايا النادرة التي اتفق عليها كلا المرشحين إبان الماراثون الانتخابي، إلا أن هذا لم يمنع التنين الآسيوي من تفضيل أحد المتنافسين، إذ تشير العديد من التحليلات إلى أن الصين كانت تتمنى إعادة انتخاب دونالد ترامب لفترة رئاسة ثانية. رغم الضغط الذي مارسته إدارته على بكين من خلال فرض إجراءات عقابية لم تشهدها العلاقات بين الدولتين طوال تاريخها منذ إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين الطرفين عام 1979 حتى وصل الأمر لإغلاق واشنطن أواخر يوليو/تموز قنصلية الصين في هيوستن بولاية تكساس، وردت بكين بإغلاق القنصلية الأمريكية في تشنغدو بعد أيام.
رغم شن ترامب حرباً تجارية وتكنولوجية على الصين في العامين الأخيرين من ولايته، إلا أن كل التقديرات تشير إلى أن بكين نجحت في تعزيز نفوذها حول العالم بقدر أكبر منذ 2018 وحتى يومنا هذا، مما جعلها تتمنى استمراره لفترة تالية لخدمة أجندتها المتمثلة في الارتقاء لمقعد قيادة العالم اقتصادياً وسياسياً. فاستمرار ترامب يعني استمرار انتهاجه سياسة "أمريكا أولاً" والتي أحدثت نوعاً من الفصل بين واشنطن وحلفائها الاستراتيجيين وهو بالطبع ما ترغب فيه بكين بشدة. حيث أوردت صحيفة "الكونفيدينسيال" الإسبانية عن أستاذ اقتصاد من كلية تشونغ كونغ العليا للأعمال في بكين أن العديد من القادة يعتبرون ترامب أحمق، فقد اتسمت فترة ولايته بانسحاب واشنطن من العديد من الهيئات والاتفاقات الدولية، كذلك اتخاذ إجراءات أحادية مما أدى لحالة من زعزعة الثقة مع حلفائها الاستراتيجيين.
فقد ذكرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية أن الحكماء في الصين أطلقوا على ترامب "تشوان جيانغو"، وهو لقب شيوعي يعني "باني الأمة"، نظراً لدوره في بناء قوة الصين الحالية، وأن حصوله على ولاية ثانية ربما كان سيزيد من اهتزاز سمعة أمريكا الاقتصادية والسياسية، ما يسمح للصين بالتمدد بنفوذها أكثر وأكثر ويتيح لها سحب الريادة من تحت أقدام أمريكا.
فشل سياسات ترامب
لعل لتلك الرغبة الصينية ما يبررها، فمنذ تولى ترامب مهام منصبه سارت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين على نحو متسارع وخطير. تمثل في شنه حرباً تجارية وتحميله بكين مسؤولية ممارساتها التجارية غير النزيهة والتي أدت لاتساع العجز في الميزان التجاري بين البلدين، لذلك فقد قام بفرض تعريفات جمركية على واردات صينية بقيمة 370 مليار دولار، كذلك فرض قيوداً على شركات التكنولوجيا الصينية بما في ذلك شركة هواوي Huawei Technologies وتيك توك TikTok التابعة لشركة بايتدانس ByteDance Ltd. وهدد الرئيس ترامب بمنع الشركات الصينية من التداول في سوق الأسهم الأمريكية، كما قام بالسماح بعمليات تبادل رفيعة المستوى بين الولايات المتحدة وتايوان، وانتقد سياسات بكين في هونغ كونغ، وإقليم شينجيانغ الذي تحتجز فيه الصين قرابة مليون مسلم من أقلية الإيغور، وحمل الصين مسؤولية التصعيد العسكري مع الهند في إقليم التيبت والتناحر العسكري في بحر الصين الجنوبي، كذلك ألقى باللوم على الصين في وفاة 200 ألف مواطن أمريكي بفيروس كورونا.
ونقلت صحيفة "الكونفيدينسيال" الإسبانية عن نائب رئيس غرفة التجارة الأوروبية في شنغهاي، كارلو دي أندريا، قوله إن ترامب حدد الخطر الذي تشكله الصين على التجارة العالمية، وعمل على كشف كل المشاكل الهيكلية التي لم يعد من الممكن تجاهلها، لكنه اتخذ الإجراءات الخاطئة. وهو ما أكده أحد الخبراء أيضاً في غرفة التجارة الأمريكية في الصين حين صرح بأنه "يبدو أن حرب الرسوم الجمركية لم تؤثر على الصين بل على العكس".
فبعد مرور أكثر من عشرة أشهر على توصل ترامب وشي جين بينغ إلى اتفاق للمرحلة الأولى من السلام التجاري في يناير الماضي، يتضح أن الصين لم تف بوعودها لترامب، فقد اشترت كمية أقل من المنتجات الغذائية الزراعية مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2017، علماً بأنه كان من المفترض أن تزيد حجم الواردات بنسبة 50%، وهو ما أدى لزيادة حالات الإفلاس في صفوف المزارعين الأمريكيين بنسبة 20% كما دخل التصنيع في مرحلة ركود بسبب المرحلة الأولى من الاتفاقية التجارية التي أبرمها مع الصين. في الوقت ذاته عجز ترامب عن إنهاء دعم بكين لشركاتها المملوكة للدولة أو إيقاف سرقة الملكية الفكرية. أيضاً تظهر البيانات الخاصة بالتجارة الخارجية الصينية لشهر أغسطس/آب أن واردات العملاق الآسيوي من أمريكا تراجعت بنسبة 2.1%، بينما زادت صادراته إليها بنسبة 9.5%.
يتمثل أحد الانتقادات لسياسة ترامب تجاه الصين في أنها ألحقت أضراراً اقتصادية بالولايات المتحدة، فضلاً عن ارتفاع التكاليف وتعطل الإمدادات للشركات الأمريكية التي تعتمد على الواردات الصينية. وقدرت دراسة لشركة Moody's Analytics أواخر العام الماضي أن الحرب التجارية الصينية كلفت الاقتصاد الأمريكي خسارة حوالي 300 ألف وظيفة وقلصت من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنحو نصف في المئة.
فشل ترامب على مستوى العلاقات الثنائية مع الصين سواء على صعيد الحرب التجارية والتكنولوجية أو على صعيد الحد من سياساتها العدائية، كذلك في ملفات حقوق الإنسان وسلوكها الإقليمي، إلا أن خدماته للقيادة الصينية لم تتوقف عند ذلك الحد. فترامب الذي روج لنفسه باعتباره رجل أعمال قادراً على عقد صفقات واتفاقات تجارية رابحة، أظهر فشلاً ذريعاً في قدرته على عقد اتفاقات متعددة الأطراف.
بدأ ترامب عهده بإعلانه الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ التي أبرمها سلفه أوباما وهو ما سمح للرئيس الصيني أن يحظى بالمديح لإعلانه أن بلاده، مصدر التلوث الأكبر في العالم، ستبدأ بتخفيض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون قبل عام 2030، في خطوة هي بمثابة النقيض لانسحاب واشنطن من اتفاق باريس للمناخ. ولم تكن اتفاقية المناخ حالة منفردة لسلوك ترامب فقد انسحب أيضاً من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ والاتفاق النووي مع إيران وأخيراً تعهد بوقف تمويل منظمة الصحة العالمية.
غير أن أخطر سياسات ترامب تمثلت في تدمير التحالفات التقليدية لبلاده عبر خوض حروب تجارية مع حلفائه في الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك ومحاولته ابتزاز كوريا الجنوبية واليابان لدفع أموال أكثر مقابل الحماية الأمريكية. إجمالاً فقد أدت تصريحات إدارة ترامب وقراراتها السياسية العشوائية إلى نظرة عامة للولايات المتحدة على أنها شريك لا يمكن الاعتماد عليه ولا الوثوق به.
تنقل صحيفة واشنطن بوست الأمريكية على لسان الباحث في مركز كارنيغي-تسيغوا في بكين بول هانلي قوله: "كان لدي باحث صيني يقول لي: إذا حاولنا إقناع كل البلدان في العالم بالاتحاد معاً وتدمير أركان قوة الولايات المتحدة، فلن ننجح في ذلك مثلما فعل دونالد ترامب بمفرده".
إجراءات أكثر كفاءة
سيجد الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن نفسه مضطراً لانتهاج سياسات أكثر تشدداً تجاه الصين، غير أنه من المتوقع أن يتجنب اتخاذ إجراءات أحادية، بل سيعتمد على نهج جماعي وائتلافي لمواجهة التهديدات التجارية والجيوسياسية التي تأتي من الصين. كما أنه سيكون انتقائياً وعقلانياً في ضغطه التجاري على بكين مقارنة بالمزاجية والعشوائية التي حكمت سلوك ترامب. ستواصل إدارته مراقبة الاستثمارات الصينية في أمريكا وفحصها، خاصة في مجالات التقنية الرفيعة، كما ستشدد الإجراءات التي تمنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية الحديثة إلى الصين. وتتوقع "إيكونومست إنتيلجينس يونت" أن يعمل بايدن "على زيادة التنسيق مع حلفاء الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا وتشجيعهم على تشديد الرقابة على الشركات الصينية واستثماراتها".
وهو ما أكده بايدن حين صرح بأنه سيعمل بشكل وثيق أكثر مما فعل ترامب لحشد الحلفاء في حملة عالمية منسقة للضغط على بكين. واعتبر أن جهود ترامب كانت ستكون أكثر فاعلية لو عمل مع دول أخرى، بدلاً من الانخراط في معارك تجارية مع أوروبا وكندا والمكسيك وكوريا الجنوبية واليابان في نفس الوقت. قالت إليزابيث بالتزان مديرة شركة "أميريكان فونكس تريد أدفايسريي"، والمسؤولة التجارية خلال رئاسة باراك أوباما "إن بايدن سيقوم بمراجعة التعريفات ومعرفة أي منها سيعزز هدفه المتمثل في استعادة التصنيع في الولايات المتحدة وأيها ليس كذلك".
إذا نظرنا لانتقادات الديمقراطيين للطريقة التي تعامل بها ترامب مع التعريفات الجمركية ضد الصين، فالأمر لا يتعلق بالتعريفات في حد ذاتها، بل بطريقة تعامله غير المدروسة بشكل كافٍ. وهو ما دفع أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رينمين في بكين، تشنغ شياوهي، للتصريح لصحيفة نيويورك تايمز: "بايدن سيجعل هذا الوضع الأمريكي المتشدد حيال الصين أكثر فاعلية وكفاءة، وقد يلجأ إلى تكتيكات أكثر تطوراً وتنسيقاً ضد الصين".
ستعود أمريكا بايدن إلى اتفاقية باريس للمناخ وكذلك للاتفاق النووي مع إيران، كما ستعيد التمويل المخصص لمنظمة الصحة العالمية، ومن المنتظر أن تعيد التفاوض بشأن "الشراكة عبر المحيط الهادئ" وإن كان الانضمام إلى هذه الكتلة ليس أولوية قصوى في الوقت الراهن. سيمارس بايدن مع حلفائه ضغوطاً أجدى وأكثر صرامة على الصين في الملفات الاقتصادية "السياسات التجارية والتكنولوجية والملكية الفكرية"، والملفات الأمنية "تايوان والتيبت وبحر الصين الجنوبي"، وملفات حقوق الإنسان" الإيغور وهونغ كونغ والتعددية الديمقراطية في الداخل الصيني".
ختاماً تدرك الصين أن خلافاتها مع أمريكا ليست ظرفية بل هي جوهرية وقد وجدت لتبقى، لأنها تتعلق بالتنافس على الثروة والنفوذ، وما تزال الولايات المتحدة القوة العظمى الأولى اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً ولن تتنازل عن موقعها هذا للصين بسهولة. غير أن بكين كانت تفضل أن يكون في الواجهة شخص إشكالي وعدائي ومتقلب المزاج مثل ترامب يمكنهم السخرية منه لمنع العالم من الاستماع إليه، حتى إذا قال شيئاً منطقياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.ne
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.