يُعتبر دونالد ترامب الرئيس الوحيد في التاريخ الأمريكي المعاصر، ما بعد الحرب الباردة، الذي فشل في الحصول على عهدة رئاسية ثانية، فهو الأول طيلة العقود الثلاثة الأخيرة بعد جورج بوش الأب الذي يغادر البيت الأبيض مقتصراً على أربع سنوات من عمر ولايته اليتيمة، وسواء كان ذلك بسبب تزوير طرأ في الانتخابات مثلما تدّعي حملة ترامب، أو نَجَم عن إرادة الناخب الأمريكي الحرة، فإن ذلك يُفضي إلى النتيجة نفسها، وإلى غلبة الاتجاه الراغب في طيّ صفحته داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وفتح مرحلة جديدة تجُبُّ ما قبلها. فهل سيتخلَّص العالم من ترِكة ترامب فعلاً؟ وهل سنشهد تغييرات حقيقية في السياسة الخارجية الأمريكية؟ وإلى أي حد سيصبُّ ذلك في مصلحة القضايا العربية والإسلامية؟ خصوصاً في الموقف من القضية الفلسطينية، ودعم الأنظمة الرسمية العربية في مواجهة معارضيها.
لا شكَّ أن هناك ارتياحاً عالمياً تجاه تدشين فترة لا يكون فيها لترامب أي حضور، فهو ذلك الشخص الإشكالي الذي حارب على كل الواجهات، واشتكى منه الجميع، والذي أظهر العجرفة الأمريكية في أبشع صورها، وضرب بالتوازنات القائمة التي بُنيت عليها السياسة الخارجية عُرض الحائط، ونزل بها إلى مستوى الابتزاز المباشر المرتكز على العضلات الأمريكية، فما كان يمارسه الساسة الأمريكان في الغرف المغلقة بوسائل غير مباشرة تعمَّد إظهاره أمام الملأ بأساليب فجّة، حيث تعمّد إهانة محاوريه، فقد كان ينتشي بإظهار الهيمنة والتفوق أمام كل من تعامل معه من الحلفاء قبل الأتباع أو الخصوم، فبمقدار ما أثار من إعجاب لدى قطاعات من المجتمع الأمريكي بمقدار ما جعل منه ذلك شخصاً بغيضاً على المستوى الخارجي.
ومع ذلك فإن الإجماع على العداء للنموذج الترامبي لا يجعل من جو بايدن مرشحاً لكل خصوم الرئيس السابق في الخارج، فبايدن يمثل من صوّت عليه ومن مول حملته في الداخل الأمريكي، وهو ملزم بالوفاء لتطلعاتهم، وبتأمين مصالحهم الاقتصادية هم فقط، أما ضحايا سياسات أمريكا في عهد ترامب، لاسيما في منطقتنا العربية والإسلامية، فلن يجد أكثرهم في الرئيس الجديد ما يُبرر تفاؤلهم المفرط.
فاللافت للانتباه أنه ورغم الصدام الحاد بين الرجلين في استحقاق الرئاسة فإن خلافهما لم يشمل كل الملفات التي تعاطى معها هذا الأخير، فنلاحظ مثلاً أن المناظرات الأخيرة سجلت لأول مرة عدم اهتمام بقضايا الشرق الأوسط، مقارنة بالقدر الذي كانت تحتله في المناظرات السابقة، ما جعلها متغيراً غير ذي دلالة في اختيار الرئيس الحالي، وهذا ما يؤشر على استمرارية الإدارة الأمريكية في نفس توجهاتها في المنطقة.
لا نفهم إذاً لماذا يمنّي البعض نفسه بوضع أفضل مما كان عليه الحال مع ترامب؟ بِمَ يعدهم الرئيس الجديد حتى يستبشروا كل هذا الاستبشار؟ الواقع أن إلصاق كل المصائب بترامب مغالطة كبرى، لأن دعم الأنظمة القمعية وعرقلة التغيير الديمقراطي في المنطقة هو سابق لمرحلة ترامب، حيث إن شرعنة الانقلاب العسكري في مصر، والمذابح التي ارتكبها السيسي، والوحش الداعشي الذي استفحل في سوريا والعراق، كل ذلك تم في عهد أوباما الوديع، ولم يفعل ترامب سوى أنه استمر في استثمار الخراب الذي تسببت في جزء كبير منه سياسات أوباما، صحيح أنه مستفز وصريح حد الوقاحة في تصريحاته وفي قراراته، لكن مخرجات مقاربتي الرجلين لم تختلف، والمتمثلة في الوقوف في وجه تحرر الشعوب العربية وإفساد ربيعها الثوري.
ومن يُراهن على أن الطغاة قد يتضررون من مغادرة كفيلهم فهو واهم، لأنهم يملكون قدرة عجيبة على التأقلم مع ساكني البيت الأبيض كيفما كان لونهم الحزبي، ومن سددوا الجزية لترامب من أجل تأمين حمايته لهم من غضب شعوبهم هم من مول بعضُهم قبل ذلك جزءاً من حملة هيلاري كلينتون الانتخابية، والمتوقع أن يفعلوا الشيء نفسه مع جو بايدن، حتى لو عصروا بلدانهم عصراً.
كما لا يتوقع أن يتراجع جو بايدن عن مسلسل الإجهاز على القضية الفلسطينية، إنْ بالاستمرار في تبني صفقة القرن أو غيرها من الخطط غير المنصفة للفلسطينيين، وسيستأنف الضغط على الأنظمة العربية من أجل تسريع وتيرة التطبيع مع الصهاينة. أولاً لأن الرجل ونائبته من أشد المؤيدين للدولة العبرية، والذي لم يظهر ما يفيد بوضوح أنه سيتخذ نهجاً مغايراً عن سلفه، ثانياً لأن صفقة القرن فرضتها الظروف الإقليمية، أكثر من كونها إملاءات من بنات أفكار ترامب، بعد أن استغلّ الكيان الصهيوني جيداً تشظّي المنطقة والتطاحن الداخلي فيها، الذي فرض الانشغال عن القضية الفلسطينية، وتدني الاهتمام بها، للتأسيس لأرضية ملائمة لحلوله الأحادية.
الرئيس الجديد سيكون مختلفاً في عدد من الملفات، خصوصاً في علاقته بحلفاء أمريكا الأوروبيين، وفي قضايا دولية اتّخذ فيها دونالد ترامب مساراً شاذاً عن رؤية الإدارة الأمريكية التقليدية، وهو ما بدت إرهاصاته تظهر بإعلانه عن استعداده للعودة لاتفاق باريس للمناخ في حالة فوزه بالرئاسة. وهو مع ذلك لن يتمكن من التخلص من الإرث الترامبي كله، ليس بسبب نفوذ ترامب وقوته، ولكن لأن العوامل التي خلقت ترامب ما زالت قائمة، فالشعبوية التي فرضتها منصات التواصل الاجتماعي جعلت من مواصفات السياسي التقليدية غير جذابة لجمهور العالم الافتراضي، وغير مؤثرة فيه. بايدن نفسه حاول أن يجاري هذه الموجة.
لقد أعطت المناظرة التلفزيونية الرئاسية الأولى انطباعاً سيئاً عن جو بايدن، الذي حاكى أساليب خصمه، الذي جرّه لاستخدام نفس نبرته العدائية، حتى بدا أن ترامب يناظر نفسه، لدرجة أن الكثير من المراقبين صنّفوا تلك المناظرة ضمن الأسوأ في تاريخ المناظرات الرئاسية، حيث لم يختلف عن ترامب في عصبيته وتشنجه، وهو ما يشكك في قدرة الرجل على لعب الدور المعتاد للديمقراطيين في إطفاء الحرائق التي يشعلها الجمهوريون، مثلما فعل بيل كلينتون بعد بوش الأب، أو أوباما بعد بوش الابن.
الإدارة الأمريكية تحتاج دائماً إلى وقت مستقطع لعقلنة جنون بعض سياسييها، دون التراجع عن نتائج سياساتهم المدمرة، لذلك فإن الرهان على بايدن من أجل لعب دور المنقذ أو المخلص هو رهان خاسر منذ البداية، فالتغيير الحقيقي لن يأتي به الخارج أبداً، حتى لو افترضنا حسن نيته، فما بالك إن كان ممن خبِرنا عداءه لنا، وحده العامل الذاتي مَن يمكن أن يقلب الطاولة على الجميع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.ne
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.