"إذا كنتَ يهودياً فسأكون صهيونياً… والدي أشار إلى أنه لا يُشترَط أن أكون يهودياً لأصبح صهيونياً، وهذا أنا… إسرائيل تعتبر ضرورية لأمن اليهود حول العالم".
جاءت هذه العبارة ضمن تصريحات جو بايدن عام 2014، عندما كان نائباً للرئيس الأمريكي (باراك أوباما). ومن المنطقي أن يتم استدعاء هذه العبارة عند الشروع في تحليل سياسات بايدن المتوقعة تجاه ملفات الشرق الأوسط، ولكن الغريب حقاً هو استدعاؤها من جانب مؤيدي ترامب -من أبناء المنطقة العربية- كإثبات على أن سياسات بايدن ستكون وبالاً على القضية الفلسطينية، أو على أقل تقدير لن تكون أفضل من سياسات ترامب.
لا أحد يزعم أن هناك رئيساً أمريكياً حقّق تقدماً عادلاً -من المنظور الفلسطيني العربي- في القضية الفلسطينية… هذا غير وارد في السياسة الأمريكية منذ عام 1948. وبالتأكيد فإن الشعوب العربية لم تكن تُعوّل يوماً على رئيس أمريكي في هذا الأمر، ولكن التقلبات السياسية التي شهدها الصراع العربي الإسرائيلي منذ الستينيات، وامتلاك واشنطن لأوراق الضغط الحقيقية على إسرائيل (التي قد تُجبرها على تحسين أوضاع الفلسطينيين أو كف الأذى عنهم وعن أرضهم)، جعلت المتابع العربي يُفاضل بين رئيس أمريكي سيئ وآخر أسوأ منه، حيث بات معيار التأييد يتجه نحو الرئيس الأقل سوءاً تجاه القضية الفلسطينية.
هنا تصبح المفاضلة في غير صالح ترامب، حيث إن سياسات ترامب العدائية والتخريبية تجاه القضية الفلسطينية غير مسبوقة في تاريخ الرؤساء الأمريكيين منذ عام 1948، خاصةً إذا تمت مقارنته بـ"جو بايدن"، السياسي الذي ينتمي إلى مؤسسة الحكم الأمريكية التقليدية، بعيداً عن الشطحات والسياسات الشعبوية.
بالطبع لن يخدم بايدن مصالح الفلسطينيين أو القضية الفلسطينية، لكن استمرار ترامب لأربع سنوات أخرى -بكل تأكيد- سيكون ذا تأثيرات كارثية على مستقبل القضية لعقود، وسيمنح إسرائيل مكاسب إضافية لن تُنتزع منها إلا بقوة السلاح.
موقف بايدن من اتفاقات التطبيع
لم يُخفِ جو بايدن ترحيبَه باتفاق تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات، واعتبره "خطوة تاريخية" ستساعد على تخفيف التوتر في المنطقة، وهو ترحيب كان ضرورياً من جهة بحكم ميوله الأيديولوجية، ومن جهة أخرى لدوافع انتخابية تتعلق بعدم إغضاب اللوبي الإسرائيلي والكتل التصويتية اليمينية المؤيدة لإسرائيل.
ولكنه أتبع هذا الترحيب بتصريحات أخرى (لأغراض انتخابية بالطبع)، تشير إلى أن "الصدفة" هي صاحبة الفضل الرئيسي -وليس ترامب- في توقيع اتفاقات التطبيع، كما أنه لم يُبدِ ردودَ أفعال واضحة حول اتفاقات التطبيع البحرينية والسودانية.
من غير المتوقع عند وصول بايدن إلى أروقة البيت الأبيض، في يناير/كانون الثاني القادم، أن يتراجع عن اتفاقات التطبيع، أو يلغي إجراءات ترامب المؤيدة لـ"إسرائيل"، مثل الاعتراف بالقدس كعاصمة لدولة الاحتلال، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، وهو ما أكّده "تركي الفيصل"، رئيس المخابرات السعودية الأسبق، أثناء حضوره قمة معهد بيروت في إمارة أبوظبي، لكنه ربما يُعطِّل خطة الضمِّ الإسرائيلية لأجزاء من أراضي الضفة الغربية والأغوار، والتي قد اعترض عليها مُسبقاً حين تم الإعلان عنها لأول مرة. كما أنه من المرجح أن يُعلق أي اتفاقيات تطبيع جديدة بين الدول العربية وتل أبيب (وبالتحديد المملكة العربية السعودية وعمان)، وذلك بحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت".
تأثير بايدن على مسارات التطبيع
هنا يمكننا القول إن هناك بعض السياسات المتوقعة لإدارة بايدن، والتي ستلقي بظلالها على مستقبل اتفاقات التطبيع التي تم توقيعها بالفعل:
1- الملف النووي الإيراني
من المتوقع أن سياسة بايدن تجاه إيران لن تكون متوافقة مع الهوى الخليجي، الذي مازال يرغب في حصار طهران وممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية عليها، الأمر الذي قد يُعزز من تحالف "دول المواجهة الخليجية" مع إسرائيل، وذلك بحسب صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية.
وقد رأى عديد الخبراء والمحللين أن دول الخليج لم تُطبِّع مع إسرائيل -من الأساس- إرضاءً لترامب فقط، ولكن لأنها ترغب في حليف إقليمي قوي يشاركها حالة العداء ضد إيران، ويشغل الحيز الأمريكي في حال رحيل ترامب، فهم يرون أن تخفيف الضغوط والعقوبات عن إيران بمثابة انسحاب أمريكي من معركة دول الخليج ضد طهران.
2- إدارة ملف القضية الفلسطينية
من الواضح أن بايدن يتجه إلى إعادةالقضية الفلسطينية إلى جدول أعمال البيت الأبيض مرة أخرى، حيث سيُعيد الحديث عن "حل الدولتين" و"وقف بناء المستوطنات"، وكذلك إنهاء الحديث عن خطة الضم الإسرائيلية.
ببساطة ستكون أولوية بايدن هي إصلاح ما أفسده ترامب بشأن العلاقات الفلسطينية الأمريكية، عن طريق إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إضافةً إلى إعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس، وإعادة صرف المساعدات المالية للشعب الفلسطيني التي قطعها ترامب، وهي كلها أمور شكلية لتحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه السياسات قد تضع دول الخليج في موقف مُركَّب، فهي لن تستطيع التماهي بشكل تام مع الجهود الأمريكية هذه المرة، لما قد تجنيه من غضب تل أبيب، خاصةً إذا جاءت المبادرات الأمريكية على غير هوى نتنياهو، لذلك من المرجح أن تلعب دول الخليج دور المراقب خلال هذه الجهود، أو ربما تدّعي أنها تقوم بممارسة ضغوط على إسرائيل (الحليفة)، للعودة إلى طاولة المفاوضات.
3- سياسات التسليح الأمريكية تجاه دول الخليج
في حواره مع صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، قال توني بلينكن، كبير المستشارين السياسيين لـجو بايدن، إن بيع طائرات "إف-35" للإمارات العربية المتحدة يترك الانطباع بأن اتفاق التطبيع بين أبوظبي وتل أبيب كان عبارة عن نوع من "المقايضة"، واعترف بأن إدارة أوباما خصّصت تلك الطائرة لإسرائيل، "وإسرائيل فقط في المنطقة".
تفتح هذه التصريحات الطريق أمام احتمالات كبيرة بأن تمنع إدارة بايدن وصول طائرات "إف-35" إلى الإماراتيين، وبالنظر إلى أن عديد التحليلات السابقة، التي أشارت إلى أن ترامب وعد الإماراتيين بطائرات "إف-35" حال توقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل، فإن شيئاً من الإحباط لا بد أنه سيُصيب أبوظبي، حيث تشعر أنها لم تربح أو تحقق أهدافها من هذا الاتفاق، وهو ما سيؤثر على سلوكها السياسي تجاه إسرائيل بكل تأكيد.
4- سياسة بايدن تجاه المملكة العربية السعودية
شغلت المملكة العربية السعودية مساحةً خاصةً في خطابات بايدن ونواياه السياسية المعلنة تجاه المنطقة، فهو ينوي -تقريباً- عكس جميع سياسات ترامب تجاه السعودية، حيث يعتزم الضغط عليها لتعديل سياساتها في اليمن، والالتزام بسياسات حقوق الإنسان بالداخل، ناهيك عن احتمالية فرض حظر على بيع الأسلحة الأمريكية للرياض.
كل هذا من –وجهة نظر "مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية" الإسرائيلي– يقوّض أي إمكانية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة، لكن ماذا لو كانت السعودية هي مَن ترغب في عقد اتفاق تطبيع سري أو علني مع إسرائيل، لنفس الأسباب السابقة، من حيث ضمان وجود حليف إقليمي قوي في مواجهة إيران، واكتساب لوبي يهودي ضاغط في واشنطن لصيانة المصالح السعودية.
تطبيع مُتنازَع عليه
في ضوء ما استعرضناه عن سياسات بايدن المتوقعة تجاه منطقة الشرق الأوسط، ليس هناك استنتاج واضح يمكن الوصول إليه بشأن مستقبل اتفاقات التطبيع، حيث إن وصول بايدن -المرتقب- إلى البيت الأبيض سيُربِك كافة الأطراف، ويُجبرهم على اتخاذ مواقف مركبة، تتسق مع التعقيد الذي يميز قضايا المنطقة.
فعلى جانب هناك من الأسباب ما يجعل اتفاقات التطبيع تدخل في مرحلة الفتور، أولها هو خروج ترامب من البيت الأبيض، وهو من دفع الدول العربية وأجرى معها الصفقات من أجل توقيع اتفاقات التطبيع، بغرض ترويجها في دعايته الانتخابية. ثانيها خطط بايدن بشأن إعادة تحريك القضية الفلسطينية، والتي تتطلب دعماً عربياً، ولو كان صورياً. ثالثها تخلي واشنطن -المرتقب- عن وعودها بشأن تسليح دول الخليج طائرة "إف-35″، والتي كانت جزءاً من صفقات التطبيع من الأساس، وفق التحليلات الغربية.
وعلى جانب آخر، نجد عوامل -لا تقل أهمية- ربما تدفع الدول العربية لتعزيز مسارات التطبيع: أولها اكتساب حليف إقليمي قوي في مواجهة إيران. ثانيها اكتساب حليف قوي في واشنطن لدعم وضمان المصالح الخليجية هناك. ثالثها الاستفادة من التعاون مع إسرائيل في مجالات الاستخبارات والتكنولوجيا والجيش، والأعمال التجارية.
وبناءً على ما سبق، فإن العامل المحوري في رسم مستقبل اتفاقات التطبيع هي خطط الدول العربية ذاتها، والوزن النسبي للأسباب التي دفعتها للإقدام على خطوة التطبيع. فإذا كانت أولوياتها هي مواجهة إيران وتعزيز التعاون العسكري مع تل أبيب فإن مسار التطبيع سيتعزز بلا شك، أمّا إذا كانت أولوياتها تكمن في إرضاء واشنطن وكسب ودها فإن مسار التطبيع سيفقد جانباً كبيراً من زخمه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.ne
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.