تابعت بكل شغف كالعادة الانتخابات الأمريكية عبر وسائل الإعلام العالمية بشكل عام، والأمريكية بشكل خاص، وناقشت خلالها بعض زملائي الأمريكيين الذين كانوا قد أدلوا بأصواتهم. وأكثر ما لفت انتباهي هو حالة الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، المنقسم على نفسه أصلاً لأسباب داخلية منها التأمين الصحي، والاقتصاد، وأزمة كورونا، والممارسات غير الديمقراطية ضد الأقليات، آخرها حادثة الاعتداء التي أودت بحياة المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد، الذي ما انفكّت طفلته الصغيرة تقول أمام وسائل الإعلام آنذاك: والدي غيّر العالم.
ويمكن القول إن خسارة ترامب كانت متوقعة من وجهة نظري المتواضعة، ليس فقط لأنني رأيت في منامي قبل الانتخابات بأيام أن بايدن فاز بتلك الانتخابات، لكنه نتيجة أسباب موضوعية ومنطقية قمت بتقديرها قبل الانتخابات، بعد قراءة دقيقة للمشهد داخل الولايات المتحدة الأمريكية، من جوانب عدة، منها سوء إدارة ملف أزمة كورونا، التي أودت بحياة مئات الآلاف، وتضرّر أسواق المال نتيجة سياساته المتخبطة وغير المسؤولة، وتجنّد معظم وسائل الإعلام الأمريكية ضده نتيجة تصرفاته وسلوكياته غير المهنية ضدها وضد من يعملون لصالحها، ورغبة "الدولة العميقة" في تغييره حسبما رشح من خلال بعض مداخلات المختصين مع وسائل الإعلام، ناهيك عن تأثر الأسواق نتيجة إعلانه "الحرب التجارية" ضد الصين، التي ترتبط معها تلك الأسواق بعلاقات وثيقة.
وتعكس تلك الخسارة نهاية الشعبوية التي مثلها ترامب، التي تعتمد على فكرة "أمريكا أولاً" في الداخل، وحسر تأثير العولمة في الخارج، والتي فرضت نفسها في مناطق مختلفة من العالم، ما يشمل منطقة الشرق الأوسط، وحاولت فرض نفسها داخل الولايات المتحدة الأمريكية بوسائل مختلفة، لكنها لم تنجح بسبب المعارضة الشديدة للمساس بالأسس التي تحكم عمل المؤسسات داخل الولايات المتحدة، وهو ما يُعرف باسم "الضوابط والتوازنات"، وهو ما وصفته بعض وسائل الإعلام الأمريكية مثل "سي إن إن" بأنه أسلوب استبدادي لا يتماشى مع تلك الأسس، خاصة بعد إعلان ترامب يوم الانتخابات عدم وجود ضرورة لاستكمال عدّ الأصوات بعد يوم الانتخابات، وقيامه بالحديث مع بعض حكام الولايات من الجمهوريين بهذا الخصوص، ما أثار خشية لدى الكثير من المتابعين في الولايات المتحدة من محاولة المساس بالأسس التي يقوم عليها المجتمع الأمريكي، والنظام الانتخابي الأمريكي بالخصوص، الذي يعتمد على الصوت الشعبي وأصوات المجمع الانتخابي، الذي يتعيّن على أي رئيس ضمان الحصول على 270 صوتاً من أعضائه.
ويعكس قيام أنصاره بالتظاهر أمام المراكز الانتخابية أثناء فرز الأصوات في محاولة للتأثير على العاملين والعاملات فيها، كما حدث أمام المركز الانتخابي الرئيسي في ولاية أريزونا، بعد إحساسه بخسارته لتلك الولاية المهمة، والتي أحدثت فرقاً كبيراً، وأثرت على حظوظه بالفوز، يعكس دليلاً على محاولاته الحثيثة للمساس بالأسس الديمقراطية التي تحكم العملية الانتخابية.
وما حاول ترامب القيام به ولم ينجح، كما أسلفنا، هو فرض أجندته الشعبوية داخل الولايات المتحدة، وإحلال فلسفته ورؤيته غير المنطقية وغير الديمقراطية، في محاولة لتغيير الأسس التي يقوم عليها الداخل الأمريكي ونظام الانتخابات الأمريكية، كما حاول في أماكن أخرى من العالم، ما يشمل منطقة الشرق الأوسط.
ولعل محاولاته المستمرة في إحلال شرعته الخاصة ورؤيته للسلام في المنطقة محل الشرعية الدولية خير دليل على ذلك، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي عانت نتيجة تلك السياسات الشعبوية خلال السنوات الأربع الماضية.
وأحسنت القيادة الفلسطينية بإعلانها قطع العلاقات مع إدارة ترامب مبكراً، كونه أراد من خلال محافظته على تلك العلاقات في العلن إضفاء شرعية على قراراته وتصرفاته غير الشرعية، والتي حاولت المساس بالشرعيات الدولية القائمة منذ زمن.
ويمكن القول إن هذه الانتخابات كانت مختلفة عن غيرها، نتيجة الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، كما أشرنا، ونتيجة تضارب المصالح بين قطاعات ذلك المجتمع. فقطاع التجار أراد نجاح ترامب ودفع بقوة لذلك، في حين لم يكن للأقليات رغبة في نجاحه، باستثناء الأمريكيين من أصل لاتيني، الذين التقوا مع فكرته الشعبوية لأسباب قد تكون تاريخية. إضافة إلى حالة الانقسام السياسي من حيث تقسيم الولايات سياسياً إلى ولايات جمهورية بلونها الأحمر، وأخرى ديمقراطية بلونها الأزرق، ناهيك عن حالة الاستقطاب السياسي والشحن الإعلامي غير المسبوقة، التي سبقت ورافقت تلك الانتخابات.
إن خسارة ترامب ورحيله عن المشهد السياسي الأمريكي والدولي تعني الكثير، وينبغي لنا قراءة المشهد بشكل دقيق، من أجل إعادة الاعتبار للشرعية الدولية ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية، غير أنه، ومع علمي بوجود اختلاف بين فكر الحزبين الجمهوري والديمقراطي بخصوص التعامل مع الشرعية الدولية بشكل عام، وبين ترامب وبايدن بشكل خاص، إلا أنه لا ينبغي إغفال الدعائم التي تقوم عليها السياسة الأمريكية في المنطقة، وتأثير قوى الضغط داخل الولايات المتحدة، ما يعني أن تلك السياسة قد لا تتغير بشكل جذري حتى مع نجاح بايدن، السيناتور ونائب الرئيس سابقاً، والسياسي المحنك المُلم بتفاصيل المشهد السياسي داخل الولايات المتحدة وخارجها بشكل جيد.
ختاماً، ينبغي التنويه إلى خطورة ما قد يقوم به ترامب أثناء الفترة التي قد تسبق تسلم بايدن مقاليد الحكم، سواء على المستوى الداخلي من خلال إعاقة انتقال سلمي للسلطات بواسطة رفع دعاوى أمام محاكم الولايات، وربما أمام المحكمة العليا الفيدرالية التي يشكل القضاة المحافظون الأغلبية فيها، ما قد يدفع أنصاره إلى إثارة الشغب خلال تلك الفترة، أو على المستوى الخارجي، خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث يثور احتمال إقدامه على منح الضوء الأخضر لعملية ضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، من أجل خلق واقع معين وصعب أمام الرئيس بايدن فيما يتعلق بإدارة ملف التسوية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.ne
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.