على إثر اجتماعات لجنة 5+5 المكونة من وفدين عسكريين وأمنيين، أحدهما تابع لحكومة الوفاق وآخر تابع لمعسكر الكرامة في مدينة غدامس الليبية، برعاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، يتذكر الليبيون دعوة المبعوث الأممي السابق لليبيا غسان سلامة، لمؤتمر ليبي جامع كان من المخطط أن يقام في ذات المدينة، ليضع لبنات حل سياسي وفاقي نهائي بين الأطراف الليبية المتنازعة في 2019.4.14م، لكن هجوم حفتر على طرابلس بعثر الأوراق، تفاجأت حكومة الوفاق الوطني صاحبة الشرعية في طرابلس بحشود عسكرية جنوبي العاصمة، ظنت للوهلة الأولى أنها نوع من الابتزاز العسكري قبيل مؤتمر غدامس الجامع، لكنها صُعقت بتسجيل صوتي لحفتر، يوم 4 أبريل/نيسان، يدشن فيه عملية الفتح المبين لما سمّاه تحرير طرابلس من الإسلاميين والميليشيات، تحت شعار "لبيك طرابلس"، وبدأت فعلاً اشتباكات استمرت أربعة عشر شهراً، عانت فيها طرابلس الأمرّين.
لماذا كان العدوان؟
مما لا شك فيه أن توقيت الحملة على طرابلس يحمل عديداً من الاستفسارات والأسئلة، فليبيا كانت على أعتاب مؤتمر جامع، ويبدو أن الأمور في الأساس كانت تسير لمصلحة حفتر، في ظل وهن وضعف صفّ الوفاق، وشتات القوى الإقليمية بعد الانتخابات الأمريكية، وتقديرات حفتر الخاطئة بسهولة المهمة، كل هذه الأسباب دفعت حفتر للقيام بهذه المغامرة دون إعداد المقاتلين واستغلال الوقت الكافي لصنع جبهة قتال حقيقية، ولعلّنا نتذكر الأسرى الذين كانوا يقعون أسرى في قبضة حكومة الوفاق بأعداد كبيرة وغير منطقية، نتيجة أخطاء صارخة في الإعداد للمعركة.
كان حفتر متخوفاً من الهجوم على طرابلس، بسبب عدم ضمانه للنتائج رغم وجود المغريات، لكن الوقت لم يكن في صالحه، فالدافع الأكبر لدخول المدن هو رغبة سكانها في إحداث التغيير، وتعاونهم مع المهاجم ضد الحاكم، وهذا ما يحدث عادة، وما حدث تحديداً في أغسطس/آب 2011، عندما رحب سكان طرابلس بالثوار في حرب الإطاحة بالقذافي، الوقت الذي لم يكن في صالحه تحديداً كان ثميناً لبزوغ نجم فتحي باشاغا، وزير داخلية الوفاق، الذي كان الأول منذ الثورة الليبية، والذي رفض في سابقة الجلوس مع الميليشيات المتحرشة بالسلطة في طرابلس، والتي تسببت في تدهور الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في طرابلس وكل ليبيا، كانت الأوضاع منذ إجراء التعديلات الوزارية لحكومة الوفاق، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، تسير نحو الأفضل، أاصبح هناك قبول نسبي لدور حكومة الوفاق في الشارع الليبي، وكان هذا هو ما يخيف حفتر بأن تتغير المعادلة الشعبية على الأرض، وهذا ما حدث فعلاً.
الوضع العالمي والإقليمي
كانت بريطانيا تعاني صداع البريكست وتبعاته، بينما يركز ترامب على الخليج ولا يهتم بالملف الليبي، أما أوروبا فكانت منجرة وراء الرأي الفرنسي الداعم لحفتر بقوة، إيطاليا لا تضع كل بيضها في سلة الوفاق، بينما دعمت روسيا حفتر بكل قوة، الجامعة العربية تحت سطوة السعودية والإمارات ومصر، أما الوفاق فكان وقتها مدعوماً من تركيا وقطر على استحياء، والخارجية الأمريكية اكتفت ببعض البيانات الخجولة.
رأى حفتر أن الغنيمة تقترب، والعالم الآن مشغول بما فيه الكفاية بالأزمة الخليجية والحرب الاقتصادية الأمريكية الصينية، والتحرش العسكري الأمريكي الروسي في سوريا، وأوروبا المريضة تعجز عن استرجاع جزيرة القرم الأوكرانية من براثن الدب الروسي، فما بالك بحرب في ليبيا لا يورو لهم فيها ولا دولار.
صمود الوفاق واستماتتها شكل نقطة التغيير الكبرى، فهذا شجع تركيا للمضي قدماً في توقيع اتفاقية بحرية اقتصادية عسكرية أمنية مع الوفاق، قطعت تركيا بهذه الاتفاقية إمكانية مد خط غاز في مشروع ميدل إيست لتصدير الغاز من شرق المتوسط لأوروبا بتنفيذ مصري قبرصي إسرائيلي يوناني، أوروبا التي تستورد الطاقة من الصقيع الروسي مرغمة، وجدت نفسها أمام معضلة كارثية، واستثمرت تركيا في هذا المخاض، المفاجئ أن تقاطع المصالح هذا جاء على هوى متحاربين في ليبيا وهما تركيا وروسيا، فروسيا أيضاً ليس من مصلحتها إنشاء خط الغاز هذا، لأنها ستخسر كل وارداتها من الغاز لأوروبا، وأيضاً فهي تعتبر ورقة ضغط مهمة على دول القارة العجوز.
انتشار الروس في ليبيا مثل للأمريكان تطاولاً غير مسبوق على التوازن العالمي، فدعمت الولايات المتحدة الدور التركي في ليبيا تحقيقاً لتوازن عسكري جنوب المتوسط، تلك المنطقة التي كانت طيلة التاريخ بعيدة عن أي تواجد روسي حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفعلاً استطاعت تركيا والوفاق قلب الموازين على روسيا وفرنسا والإمارات الداعمة لحفتر.
كشف حساب بين غدامس الأمس وغدامس اليوم.. ما المكاسب وما الخسائر؟
قبل الحرب كان حفتر يمتلك شعبية مقبولة نسبياً، حيث ينظر إليه أنه محرر بنغازي من الإرهاب ومحرر الموانئ والحقول النفطية من المبتزين وقاهر الميليشيات، لكن بعد الهجوم الدموي على طرابلس ظهر وجه آخر لحفتر، إذ إنه يمتلك مجموعة من المقاتلين غير النظاميين يتشفون من القتلى ويمثلون بالجثث ويبرعون في إنشاء مقابر جماعية، ويتعاون مع مرتزقة ومتطرفين متدينين من المداخلة الذين يكفرون الآخر ويستبيحون دمه وماله، أما بعد الحرب فبزغ نجم كُثر، واعتبر حفتر شعبياً وإقليمياً وعالمياً مهزوماً في هذه الحرب التي أشعلها دون تقدير لعواقب، فتحي باشاغا وزير داخلية الوفاق هو الأبرز بقبوله الداخلي وعلاقاته الإقليمية، وسيف الإسلام القذافي، وحتى عقيلة صالح، كل هؤلاء بإمكانهم صنع الفارق وتهشيم شعبية حفتر الهشة، التي بدأت تتهاوى بشكل متسارع بعد خسارته للحرب، وعودة ميليشياته لمدن الشرق الليبي، وسط أفعال إجرامية صارخة أحالت المجتمع في شرق ليبيا لحالة رثّة لا أمن فيها ولا أمان.
أيضاً قبل الحرب كانت قاعدة الوطية وأقصى الغرب الليبي تحت سيطرة حفتر، لكنه خسرها لصالح الوفاق، وعادت مدن صبراتة وصرمان ورقدالين والجميل والرجبان تحت مظلة الوفاق، حفتر أيضاً حصل على سرت في وسط ليبيا، لكنه قد لا يستغلها استغلالاً أمثل في حال تم التوافق على جعل سرت والجفرة منطقتين منزوعتي السلاح وتحت تأمين الوفاق بواسطة الشرطة.
بالنسبة لليبيا فقد خسرت الكثير، آلاف القتلى، وأكثر من 200 ألف مهجر، وآلاف البيوت أصبحت ركاماً، وأحياء في جنوب طرابلس شهدت حرب شوارع مروعة، وحالة جديدة من الاستقطاب الشعبي، وعشرات المقابر الجماعية، وإغلاق المواني والحقول النفطية، ودين عام مرعب في سجلات الدولة المالية، ومقتل مئات من المدنيين والأطفال، وتدمير البنية التحتية المتهالكة أصلاً، واحتلال صارخ من المرتزقة.
ويبقى السؤال: لماذا يرضخ الطغاة لهواهم ويدوسون على رغبات الشعوب، ولماذا غدامس اليوم بعد الهزيمة وليس الأمس قبل الدمار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.ne
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.