إن هذه الدعوات إلى المقاطعة لا مبرر لها ويجب أن تتوقف فوراً، على غرار كل الهجمات التي تتعرض لها بلادنا والتي تسخرها أقلية متطرفة.
الناطقة باسم وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية
لا نكتب اليوم من أجل الحديث عن الجرائم والحوادث الإرهابية التي وقعت مؤخراً في فرنسا، فهذا شأن من المفترض أن ترعاه وتصونه مؤسسات الجمهورية الفرنسية المنوط بها إدارة الحياة العامة بين المواطنين داخلها بكل حيادية وعلى مسافة واحدة من كل الأديان والمعتقدات. وأن تصون الأمن العام وتعمل على وأد كافة أشكال العنف المادي والنفسي والمعنوي تجاه أي فئة من فئات المجتمع. لذا يجب على الجمهورية الفرنسية أن تقف وقفة جادة مع مؤسساتها الأمنية وتعيد تقييم كفاءتها وقدراتها وتعمل على تطويرها للتأكد من قدرتها على مواجهة التحديات الصعبة، بدلاً من أن تقف موقف المشاهد من عملية اعتداء ينفذها شاب تونسي لم يبلغ عقده الثالث بعد ولم يمضِ على وجوده في الأراضي الفرنسية الكثير من الوقت. إن الأجهزة الأمنية الفرنسية تعاني من الفشل في جمع المعلومات الدقيقة اللازمة للتنبؤ ومنع العمليات الإرهابية.
وفي هذه الأجواء المحتدمة، أتذكر قول أمي لي عندما كانت تستذكر لي مادة "الدراسات الاجتماعية" وجاء ذكر فرنسا، فقالت لي إن الأخيرة هي "دولة الآمال بلا أفعال".
مرّت الكلمات مرور الكرام، لكن تقلبات الزمان ومستجدات السياسة استدعتها من مسكنها القديم. فهمت أمي مكمن الخلل الفرنسي وأوجزته ببلاغة ناجزة. فالدولة الفرنسية تواجه مشكلة دائمة في التحليق والتطبيق. أي أنها تحلق بخيالها بعيداً عن الواقع وعن قدراتها الحقيقية. وهي كذلك تصطدم بواقع حكوماتها الفاشلة التي تورّطها في عداوات وثارات لا حصر لها. فتصير مثل عليا كالإخاء والعدل والمساواة شعارات أرخص من الحبر الذي كتبت به.
يقر رأس السلطة الفرنسية، إيمانويل ماكرون، أن المشكلة الاجتماعية في فرنسا هي دينية بالمقام الأول، فيرى "الإسلاموية الانفصالية" كأصل لظواهر عديدة مرفوضة. لكنني أراها دينية أيضاً، لكن لا علاقة لها بالإسلاموية الانفصالية، بس المشكلة في "الدين الفرنسي" الذي يواجه أزمة ليست بالجديدة. و"الدين الفرنسي" هو دين خلقته الجمهورية الفرنسية وسمّته الوطنية الفرنسية، دين لجميع الفرنسيين لا يسمح بالارتداد عنه أو الكفر به، ومن أجل هذا الدين تحضر القرابين من إفريقيا وتقدم الرؤوس مقطوعة في محرابها الذي يزوره الملايين حول العالم. وهناك شريعة وأحكام لذلك الدين، لكن لا مجال للاجتهاد في الفهم أو التطبيق. فإما أن تقبل بنسخة الدولة الشمولية منه أو أن ترفضه بالكلية وتتحمل تبعات ذلك إن استطعت.
معضلة أخرى هي ربط العلمانية الفرنسية بالوطنية الفرنسية، وتصويرهما كتوأم لا ينفصل. فتتشرب العلمانية سمات الانتقائية والعدائية من الوطنية، بل ويتم تقديسها وتحريم انتقادها وكأنها شريعة إلهية، رغم أن ذلك ينافي مقتضى العلمانية وما تدعو إليه من تحرر فكري.
ولعل ما يثير الأسف على الحال الذي وصلت إليه فرنسا، هو أسلوب رئيسها المنمق في إلقاء كلمات لا تنم إلا عن سطحية لا تليق بالجمهورية العريقة، فيقول: "سنحمل راية العلمانية عالياً، ولن نتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات". يضع ماكرون العلمانية الفرنسية في هالة من القداسة التي جاءت العلمانية لنسفها في الأساس، ويضعها فوق النقد والمراجعة بلا أي هدف سوى التعصب الأعمى والغرور الاستعماري والإيمان بالتفوق الأبيض.
مشكلة الجمهورية الفرنسية ليست مع الإسلام فقط، بل مع جميع الأديان التي لا تقبل التدجين والخضوع لاستخدامات السلطة والساسة. وفي هذا الصدد، يكون الإسلام العدو الأول للجمهورية في الحقلين الثقافي والسياسي.
فرغم تنازل الجمهورية عن التدخل في الشؤون الدينية، وتخلي الكنيسة عن التدخل في الشؤون السياسية وفقاً لقانون الفصل بين الدين والدولة الذي تم إقراره في عام 1905، إلا أنها لا تسمح لمواطنيها بممارسة تعاليمهم الدينية بسلام وهدوء إلا إذا كان له التبعات الاجتماعية والسياسية التي تنشدها الدولة.
فقد ذكر الصحفي الفرنسي ورئيس التحرير السابق لجريدة "لوموند ديبلوماتيك"، آلان غريش، في كتابه "الإسلام والجمهورية والعالم" أن مشروع العلمانية في فرنسا الذي بدأ على يد أحد مفكريه الأصليين إميل كومب لم يكن يريد فصل الدين عن الدولة فحسب، لكن أيضاً تدمير الكنيسة الكاثوليكية وتخريبها من الداخل مع إيقاف نفوذها وحده تحت رقابة الدولة. وها هي الجمهورية تتجه نحو مواجهة مع الإسلام من دون تعيين واستيعاب الفروق الجوهرية بين الإسلام كدين وبين المسيحية في الجوانب الاجتماعية والسياسية. وأصبحت تلك المواجهة المزينة بلوحة الإرهاب الشهيرة واضحة فجة. ففي مؤتمر صحفي عقد يوم 13 أكتوبر من هذا العام كشف وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان عن إغلاق السلطات 73 مسجداً ومدرسة خاصة منذ مطلع العام الجاري، بذريعة "مكافحة الإسلام المتطرف".
إن كل ما تفعله الدولة الفرنسية من حصار للدين الإسلامي هو محاولة، بطريقة ممنهجة، تقديم أقلية دينية كقربان تتقرب به لباقي فئات المجتمع لتتهرب من فشلها الاقتصادي والسياسي.
اضطراب الجمهورية
في عالم يسوسه ساسة شعبويون وغوغائيون، يأتي ماكرون المتأنق بشعارات ومبادئ وآمال لا يفقه كيفية تطبيقها ليظهر للجميع الأزمة التي تمر بها فرنسا منذ عقود. فتارة تسنّ الجمهورية قوانين تحد من الحريات الدينية كالقانون الصادر في عام 2004 الذي حرم ارتداء الرموز الدينية في المدارس والمعاهد، وما تلاه من قانون تحريم النقاب في الأماكن العامة سنة 2010.
وتارة أخرى تتجلى الأزمة في تراجعها أمام المد المسيحي، بزعم الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية لأوروبا تحت يافطة "العلمانية الإيجابية" التي جاءت في خطاب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في ديسمبر عام 2007 الذي دعا فيه إلى عدم اعتبار الديانات كخطر بل كعنصر قوة محاولاً استقطاب بعض المشاعر الجماهيرية.
ورأينا إيمانويل ماكرون يحاول الظهور بمظهر المحايد المتراجع قليلاً إلى الخلف أمام كاميرات الجزيرة وهو يخاطب المسلمين. وهو نفس الرجل الذي خطب ودّ القساوسة الفرنسيين عام 2018، حين أعرب عن نيته التقرب للكنيسة الكاثوليكية تارة أخرى.
وبين خطوة للأمام وأخرى للوراء يرقص ماكرون على أنغام سياسة يظن أنها مدروسة، بينما ما هي إلا حركات مضطربة تؤدي لارتفاع وتيرة العنصرية وزيادة الكراهية في المجتمع. وفي نفس الوقت، تظهره بمظهر العاجز حيال الأزمات الاقتصادية والسياسية الطاحنة التي تمر بها البلاد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.