غالباً ما يأتي اليوم الفاصل والأخير في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والمحدد بأول يوم ثلاثاء من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، متقارباً في الذاكرة الفلسطينية والعربية مع ذكرى وعد بلفور، لكن اللافت في هذه المرة أنها تأتي بعد مبادرة جديدة أطلقتها الإدارة الأمريكية بعنوان صارخ "صفقة القرن" ما يجعل الربط بين الوعد والصفقة حاضراً في آفاق المرحلة المقبلة.
عندما كانت بريطانيا القوة العظمى في العالم، واستطاعت الخروج منتصرة، والحلفاء، من الحرب العالمية الأولى، أطلقت عبر وزير خارجيتها "آرثر بلفور" في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، وعدها بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. وكان ذلك الإعلان بصيغته النهائية بعد مفاوضات طويلة ومشاورات شارك فيها ممثلو عائلة روتشلد بفرعيها الفرنسي والبريطاني، وحاييم وايزمان الذي خلف هرتزل في رئاسة الحركة الصهيونية العالمية.
مارست الحكومة البريطانية قبل سنتين من الإعلان المزمع سياسة التكتم والمواربة المخادعة في بداية مراسلاتها مع الشريف حسين، لكسبه والعرب حليفاً ضد السلطنة العثمانية، ووعده بدولة عربية بزعامته، شاملة كل سوريا الطبيعية (بلاد الشام)، باستثناء بقعة غرب مدن دمشق وحمص، وهو ما يفهم منه أن المقصود جبل لبنان وبعض ساحله، نظراً لخصوصيته بعد اضطرابات القرن السابق، لتتذرع بعد الإعلان بأن فلسطين مشمولة بتلك العبارة، لأنها تقع في الجنوب الغربي من دمشق.
أما ما بعد ذلك، وقد تحقق الانتصار لبريطانيا والسيطرة على الأرض، فتعاملت بسياسة إملاءٍ وفرضٍ للأمر الواقع، وحين لم تنجح بأخذ اعتراف مباشر من الشريف لجأت إلى ولديه فيصل وعبدالله، مقابل وعودها بجعلهما ملكين، فوقع فيصل ووايزمان اتفاقية 1919، التي تضمّنت في بنودها موافقة صريحة على وعد بلفور، ضمن حزمة بنودها التي يعرف الطرف الآخر ما يأخذ به وما يرميه عندما لا توافق مصالحه، بعدما انتزع ما هو أهم له. وهو ما فعلته الحكومة البريطانية، فرعت المشروع خلال انتدابها، وعندما أضحى جاهزاً بعد الحرب العالمية الثانية ادعت خروج الوضع عن إمكاناتها، فطرحته للتدويل ليخرج القرار الأممي بالتقسيم ويعقبه إعلان قيام الدولة الصهيونية بمسمّاها (إسرائيل).
تغيرت موازين القوّة العالمية بعد الحرب الثانية من حيث الترتيب لصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي تسيّدت المشهد عقوداً، مع تراجعٍ للدورين البريطاني والفرنسي، وإن كان الدوران لا يختلفان كثيراً مع أمريكا في المنظور المشترك لقواعد الصراع العربي الإسرائيلي وآفاقه، لتغدو الولايات المتحدة متصدرة المشهد في كل ما يخص رعاية إسرائيل.
وتسليحها وحمايتها، والدفاع في مجلس الأمن بسلاح الفيتو المستخدم مراراً عن تجاوزاتها، وإن تخطّت كل معقول أو انتهكت أي محظور من اتفاقات دولية أو قرارات أممية، وبأولوية غير مستترة حتى على الصعيد الأمريكي داخلياً، بما يتبدى خلال تسابق الحزبين الأمريكيين (الجمهوري والديمقراطي) على تناوبات الحكم من محاولات كسب ود اللوبي الصهيوني، المؤثر بآلته الإعلامية وأذرعه الأخطبوطية، الداخلة في ثنيات البنية الأمريكية، وبتقديم مزيد من الوعود لدعم إسرائيل وتحقيق برامجها.
أمام مآلات المنطقة العربية بعمومها، والتصدعات الحاصلة في بِناها على الصعد كافة، سواء من حيث السقوط المتأخر للدول المحكومة بالديكتاتوريات أم من حيث الاستجرار، جمعاً وفرادى، لمباحثات سلام مزعوم، ثم اتفاقيات تصب في مجملها ومداها الاستراتيجي في المصلحة الإسرائيلية، كانت الفرصة سانحة لمشروع صفقة ما تجاسر أحد من الرؤساء الأمريكيين السابقين على طرحها، ربما لاجترائها على حق يعتبر مقدساً في العرف الإنساني قبل الدولي، وربما لأن وضع المنطقة حينها وتوازناته لم تكن تسمح، لكنها مع وضع عربي بهذا الدرك من الهشاشة ومع رئيس مثل ترامب يجرؤ أن يواجه العالم بمنطق صفقات المقاول، كان إطلاق مشروع (صفقة القرن) الذي كان عرابه والمروج له (جاريد كوشنر) صهر الرئيس وكبير مستشاريه، والذي كان من أسباب تعيينه، إن استبعدنا العوامل الخفية، قربه من ذهنية ترامب كونه يعمل في الصفقات العقارية ولقربه من أوساط إسرائيلية بحكم صفقاته وديانته اليهودية.
صفقة القرن التي في مجملها، ومختصرها، تصبّ في صالح إسرائيل بمنحها السيادة الكاملة على القدس والحفاظ على جميع مستوطناتها في الضفة، وما اقتطعته من أراض حولها، وتلغي حق العودة للفلسطينيين مقابل تعويضهم بأموال وبعض أراضٍ تقدمها مصر لتوسعة قطاع غزة وإنشاء مرافق فيه، مع وصله بمعبر مع المتبقي من الضفة ليكوّنا دولةً فلسطينية تبقى منزوعة السلاح، مقابل دعمها مالياً من صندوق استثماري دولي (تدفع أمواله دول عربية غنية.
اللافت في مشروع الصفقة المرفوضة فلسطينياً أنها تلقى ترحيباً أو مواقف مواربة من الدول التي ستتحمل الضريبة الكبرى، حال إنفاذها، كبعض دول النفط العربي ومصر، فيما يتراوح الموقف الإسرائيلي الرسمي بين عدم حفاوة معلنة وانتظار تطورات، في حين تعزو تسريباتٌ الخطة بكاملها إلى ورقة إسرائيلية تم تقديمها إلى الإدارة الأمريكية منذ العام 2012، وأن ترامب وعراب الصفقة كوشنر مجرد وسطاء ترويج يتبنونها ظاهراً فحسب، ما يجعل السؤال مطروحاً عن مصيرها في حال فشل ترامب في الانتخابات غداً.
فهل صفقة القرن مرتبطة بعرّابها كوشنر وحماه الرئيس ترامب؟
وهل بقاؤها منوطٌ ببقاء ترامب رئيساً؟ وفي حال ذهابه تذهب هي وكوشنر معه بلا عودة؟
أم هي مخطط أعمق تمضي إليه استراتيجية أمريكية وفق منظور بعيد للمنطقة وصراعاتها؟ وعندها لا تبقى أهمية كبيرة لأصحاب المبادرات أو الوعود ومطلقيها وعرّابيها، لأن الأهم هو تحقيق الهدف عبر تهيئة الأرضية المناسبة له، وخلق الأجواء المناسبة لتحقيقه، وإن اضطرت بما تملكه من قوة ونفوذ ووسائل ضغط وتغيير لاستبدال من بقي من قادة يرفضون بقادةً يرضخون، وحينها لا تبقى سوى إرادات شعبية رافضة محكومة بمنظومات قمعية كما كان شأن المنطقة العربية منذ بلفور إلى اليوم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.