لم تقُم إسرائيل لا استجابة لوعد بلفور، ولا بادعاء وعد ربّاني، متخيّل، في الأسطورة التوراتية، بحسب آباء الفكرة الصهيونية، علماً أن هؤلاء أصلاً، غير متدينين، أو "علمانيين"، بمعنى يميزون بين الدين والدنيا، في حين أنهم أقحموا الدين لمجرد استغلاله في استقطاب اليهود للهجرة إلى فلسطين.
في الحقيقة، فإن الدول والمجتمعات لا تقوم لا بالوعود ولا بالشعارات، وبخصوص إسرائيل فهي قامت نتيجة عمل منظم ومدروس ومثابر أسست له المنظمة الصهيونية العالمية، التي توفّر لها مجموعة من الشخصيات استطاعت مخاطبة مجتمعات اليهود في العالم واستقطابهم، في مؤتمرات سنوية كانت تعقد لتنظيم هذا الجهد ومتابعته، وتوفير الموارد، وتأمين الظروف الدولية له. ما يجدر التذكير به أن تلك الحركة لم تشتغل على الصعيد السياسي/الشعاراتي فقط، إذ إنها دعّمت ذلك بتأسيس الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي، لتنظيم الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتقديم الدعم المادي لها، وشراء الأراضي، كما أنها أنشأت الجامعة العبرية منذ مئة سنة (لاحظوا الجامعة أولاً) ثم الكيبوتزات (المزارع التعاونية) ثم الهستدروت (النقابة العمالية) ثم المنظمات العسكرية (هاجاناه، أراغون/ايتسيل، ليحي/شتيرن). وإضافة إلى كل ما تقدم فقد استطاع زعماء الصهاينة وضع حركتهم في تقاطع أو في قلب السياسات العالمية إزاء العالم العربي مستفيدين من كل التغيرات الدولية، وبخاصة من القوى العظمى حينها، سيما بريطانيا ثم الولايات المتحدة.
هكذا فإن إسرائيل لم تقم ولم تستمر ولم تتطور بوعد بلفور فقط، فتلك سردية مغشوشة ومخاتلة روجتها الأنظمة العربية التسلطية لتبرير عجزها وتواطئها، تماماً مثلما روجت سردية التجزئة الخاصة بسايكس بيكو. أما ما يفسر استمرار إسرائيل وتطورها، فهو وجود تلك الأنظمة بالذات، على العطالة المتمثلة بها، أي ليس بسبب مواجهتها أو عدم مواجهتها لإسرائيل، فهذا شأن آخر، وإنما بسبب تعطيلها إمكانيات تطور المجتمعات العربية وحؤولها دون قيام الدولة باعتبارها دولة مؤسسات وقانون، والمجتمع بوصفه مجتمعاً لمواطنين أحرار ومتساوين، ناهيك عن إقامة دول تسلطية قائمة على الفساد السياسي ونهب الموارد ومصادرة الحريات، ما يفسر استمرار وتطور إسرائيل الضئيلة بالقياس للعالم العربي والمصطنعة بالقياس لتاريخ مجتمعات هذه المنطقة.
يستنتج من ذلك أن إسرائيل لم تستمر رغماً عن التاريخ وإنما بفضل التاريخ، أي بفضل الظروف الدولية والعربية المواتية لها، وهي تستمر بفضل ذلك، دون التقليل من العوامل الذاتية، التي تؤكد استمرارها وضمنه نظامها الديمقراطي (نسبة لمواطنيها من اليهود) وإدارتها الحديثة وتقدمها العلمي والتكنولوجي، ونمط علاقاتها بيهود العالم. مع كل ذلك فتلك الدولة تعيش على ضعف العالم العربي، والتخبط الفلسطيني، وملاءمة الظروف الدولية لها، بمعنى أن أي تغير في هذه المعطيات سيؤدي إلى تغييرها هي أيضاً. وعليه لا موجب للاعتقاد بأن تلك الدولة المصطنعة التي نشأت من نقطة الصفر في العلاقة مع الأرض والشعب والتاريخ، تمتلك أفقاً مفتوحاً للبقاء، فلا شيء إلى الأبد، وهي دولة محكومة بتناقضاتها وبكونها دولة تأسست على الدين، وعلى حساب أهل الأرض الأصليين وبقوة السلاح وبفضل المعادلات الدولية والعربية.
وعليه، فإن عدم تخيّل إمكان استمرار دولة إسرائيل الصهيونية، ليس له علاقة فقط بأسئلتنا، وبحقوقنا، وبعدالة قضيتنا، وإنما له علاقة، أيضاً بطبيعة هذه الدولة الشاذة والمصطنعة، التي تتناقض مع حقائق الجغرافيا والديموغرافيا، والتي تسير عكس مسار التاريخ بإصرارها على طابعها كدولة يهودية استيطانية، ودينية، واستعمارية وعنصرية، في القرن الحادي والعشرين، والذي يفترض أنه يغذي الخطى نحو الحداثة والديمقراطية ودولة المواطنين المتساوين الأحرار، رغم كل المعيقات والمشكلات، وضمنها نوع إدارة أمريكية كالتي أتت مع دونالد ترامب، مثلاً.
الفكرة الأساسية هنا أن إسرائيل ليست قدراً، بقدر ما هي ظاهرة تاريخية، والظواهر التاريخية لها بداية ولها نهاية، وهذا ليس رأياً لي فقط، إذ يتحدث عن ذلك أيضاً عديد من المثقفين اليهود في إسرائيل وخارجها أيضاً، وهو مبطن لدى كثير من عتاة اليمين الإسرائيلي، كنتاج للخوف التاريخي المزمن؛ هذا من ناحية.
من ناحية ثانية ربما يمكن القول، وعلى ضوء كل الظروف والتطورات الصعبة والمعقدة، أن تحرّر الفلسطينيين هو جزء من عملية تحرّر العالم العربي، من دون صلة بكليشيهات سابقة عن أن "تحرير فلسطين يمرّ من هذه العاصمة أو تلك" في الجغرافيا، إذ إن ذلك يرتبط بتحرّر الإنسان العربي، وقيام دولة المواطنين الأحرار والمتساوين، الديمقراطية الدستورية في تلك المنطقة من العالم، في تلك اللحظة، ومع تطورات عربية ودولية مناسبة، ربما لن يبقى لإسرائيل ما تتميز به، ما يجعلها تذوب أو تنهار، أو تختفي بوصفها مشروعاً صهيونياً، فحتى الإمبراطوريات تختفي، كما بينت التجارب التاريخية للبشرية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.