رغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعترف في خطابه قبل أسبوعين بأنه ليس متخصصاً في الإسلام فإنه سمح لنفسه بأن يتحفنا برأيه وهو كما يعرف الجميع الآن: أن الإسلام كديانة في أزمة في كل بقاع العالم. وبالأمس القريب (13 أكتوبر) تراجع وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان عن مقولة ماكرون هذه، وصرح بأن الإسلام ليس في أزمة!
هذا التناقض الفرنسي (المعتاد) حريّ بأن يدفعنا للتساؤل ربما للمرة المليون: هل "الإسلام" كدين في أزمة بالفعل؟
وحتى أكون واضحاً منذ البداية فإنني أضع فرقاً بين "الإسلام" كدين أصوله في الكتاب والسنة وبين معتنقيه من المسلمين أي بين الإسلام وأمته. فالإسلام اكتمل في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) خاصة عندما نزل قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (سورة المائدة، آية 3). وهذه الآية يمكن تبعاً لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أن نسميها "آية العيدين" حيث نزلت يوم جمعة والمسلمون على عرفات.
وبعد انقطاع الوحي بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) أصبح الإسلام حقيقة تاريخية كاملة مكتملة، قائمة بذاتها، وأصولها كما مر في الكتاب والسنة. وكل ما تلى هذا التاريخ المحدد ليس تاريخاً للإسلام ولكنه تاريخ للمسلمين. وبالتالي لو قدرت أن تتصور الإسلام كحقيقة مستقلة بذاتها ومتميزة عمن يتحدثون باسمه ستتغير رؤيتك للأشياء وسيرتقي فهمك للإسلام. وهي فكرة منطقية ولكنها ليست صعبة ولا تحتاج لتدريب طويل.
ويمكن أن أشير هنا إلى مدرسة فكرية مهمة في علم النفس التربوي تسمى "مدرسة الجشطالت"، وهي متخصصة في "تصور أشكال الإدراك البشري" وهذه المدرسة للأسف غير مشهورة عندنا رغم أنها أحدثت ثورة في علوم التربية تغيرت على أثرها طرق التعليم في العالم وربما عندنا أيضاً ونحن لا ندري أن هذا من فعل هذه المدرسة الفكرية.
المهم أن هذه المدرسة وضعت -بناءً على تجارب حقيقية- قوانين أطلقت عليها اسم "قوانين الإدراك" تهتم بكيف يتعلم البشر صغاراً وكباراً وكيف ينبغي تقديم المعلومة لهم. أحد هذه القوانين يسمى "قانون ثبات الإدراك". وهو بالمناسبة قديم وسابق على المدرسة ولكنها أعادت صياغته واستخدامه. وفكرة هذا القانون أن كل إنسان يرى أي موضوع من خلال زاويته الخاصة لكن هذا لا يؤثر على الموضوع نفسه؛ لأن الموضوع لا صلة له برؤية هذا الإنسان. بمعنى أنك إذا رأيت الطائرة البعيدة صغيرة فهذا لا يعني أنها صغيرة كما تبدو لك، فهي لم تصغر حجماً ونظرتك إليها لا تؤثر عليها.
وهذا يمكن أن يقال على كل شيء آخر بما فيها الإسلام نفسه كدين وحقيقة تاريخية. فالإسلام ذاته يبقى متميزاً ومستقلاً عن كل من يتكلم عنه منذ اكتماله وحتى الآن. فكل ما قيل ويقال عنه هي وجهات نظر وتأويلات لاحقة به أي بالإسلام وليست هي الإسلام نفسه، وبهذه الطريقة يمكن أن تنظر على سبيل المثال لكتابات ابن تيمية ولكتابات السلفيين ولكتابات منظري الاتجاهات المتطرفة، فهذه الكتابات ليست هي الإسلام ولكن ما فهمه هؤلاء من الإسلام.
وبناءً على هذه الفكرة توجد في المجال العلمي تسميات كثيرة خاطئة، فالتاريخ الذي تلى وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) لا ينبغي أن يسمى بتاريخ الإسلام ولكنه "تاريخ المسلمين". والحضارة التي ندرسها ليست "حضارة الإسلام" ولكنها "حضارة المسلمين" والفن الذي وصلنا ونراه في المتاحف ونقرأ عنه في الكتب ليس "فناً إسلامياً" ولكنه "فن المسلمين". وقياساً على كل هذا أقول: العنف الذي نشهده كثيراً لا يمكن تسميته بالعنف الإسلامي، ولكنه "عنف مسلمين"، وهو يستوي في ذلك بعنف اليهود والمسيحيين والهندوس والبوذيين.
فالطائرة لا تصغر لأنك تراها صغيرة، والإسلام لا يصبح في أزمة لأن البعض يراه كذلك!
وليس معنى ذلك أنه لا توجد أزمة على الإطلاق! فالأزمة موجودة وهي أزمة كبيرة ومستمرة منذ عدة قرون، ولكنها حسب ما سبق "أزمة مسلمين لا أزمة إسلام". فخطأ ماكرون في رأيي هنا أنه تحدث عن أزمة في "الإسلام" بينما هي أزمة مسلمين. ومن الخطأ أن يخلط ماكرون أو أي أحد آخر بين الإسلام كعقيدة وشريعة ونظام أخلاقي وبين تصرفات المسلمين التي تقاربه أحياناً وتبتعد عنه أخرى.
وكان لهذا الفهم الغلبة على فكر المسلمين وقت تفوقهم ثم اختفى وقت انحسارهم المستمر منذ عدة قرون. وكان ذلك لأسباب كثيرة أهمها بالترتيب: الفساد الداخلي والتدخل الخارجي. ويمكن تحديد بداية التدخل الخارجي زمنياً بعصر الحروب الصليبية، وكانت في الغالب حروب فرنسية لذا عرفها المسلمون بحروب الفرنجة، أما فرنسا والبابا الفرنسي فهم من سموها الحروب الصليبية.
ولم تمضِ فترة طويلة حتى تجدد انكماش أمة الإسلام وتفتتها مع الحركة الاستعمارية التي بدأت بأن جددت فرنسا الحروب الصليبية بالحملة الفرنسية على مصر والشام سنة 1798م. ومن ثَم تكالبت الأمم الاستعمارية على أقطار دول المسلمين وتوزعوها فيما بينهم.
وكما ترى فإن فرنسا كانت لها اليد الطولى في صناعة هذه الأزمة التي تعايرنا بها على لسان ماكرون.
ففرنسا ما احتلت دولة مسلمة إلا وأفسدت عليها إسلامها، فكانت تلغي القوانين الإسلامية وتطبق قوانينها هي ثم تكون الطامة عندما تصادر الأوقاف وتترك مؤسسات المجتمع المسلم دون مورد رزق فتنهار النظم التعليمية لتحل محلها النظم الفرنسية. ومن ثم كان للاحتلال الفرنسي وما زال دور كبير في تفاقم أزمة المجتمعات الإسلامية المعاصرة خاصة في إفريقيا ومنها يأتي أغلب أفراد الجالية المسلمة في فرنسا. وبعد أن قامت فرنسا بفرنسة أجيال كثيرة استقبلت بعضهم كعمال مهاجرين لتعويض ما فقدته إبان اندحارها أمام النازيين.
ومنذ البداية عملت فرنسا على تجاهل هذه الأقلية وعدم دمجها في المجتمع الفرنسي. ومع الوقت تضخمت الجالية وتضخمت مشاكلها. وحتى الآن تبدو فرنسا وكانها فوجئت بوجود أقلية إسلامية مليونية، ولأنها لا تريد استيعاب هذه الحقيقة فقد فشلت حتى الآن وبشكل متكرر في معالجة مشكلاتها مع مواطنيها المسلمين. وأحد الأسباب الرئيسية في رأيي أن فرنسا أو طبقتها السياسية لا تريد أن ترى المشكلة في تعاملها مع مواطنيها المسلمين لذا تواصل الهرب بادعاء أنها مشكلة في الإسلام نفسه. لذا كان الأزهر محقاً عندما اتهم خطبة ماكرون بالعنصرية ونشر الكراهية.
ورغم أن وزير الداخلية الفرنسي قد تراجع بالأمس عن بعض أقوال رئيسه، فإن إجراءات ماكرون ما زالت سارية وبقوة، والعمل متواصل على قانون ماكرون لتحجيم الإسلام في فرنسا، ومحاولة صناعة نسخة مفرنسة تخضع لقوانين الجمهورية الفرنسية وعلمانيتها المتوحشة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.