غلبة القبلية والتعصب وانتشار عمليات الاغتيال.. لماذا عقِمَ العراق عن إنتاج قادة سياسيين؟

عدد القراءات
611
عربي بوست
تم النشر: 2020/10/22 الساعة 08:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/22 الساعة 08:53 بتوقيت غرينتش
مظاهرات في بغداد بالعراق- صورة أرشيفية - رويترز

خلال مؤتمر القاهرة الذي عُقد في مارس 1921 لمناقشة شؤون المستعمرات البريطانية في الشرق الأوسط، تقرر ترشيح الأمير الهاشمي الحجازي فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، رُغم طرح أسماء أخرى عراقية لشغل ذات المنصب مثل عبدالرحمن النقيب، عبدالهادي العمري، طالب النقيب، لكن كان رأي وزير المستعمرات حينها وينستون تشرتشل أن شعب العراق "أمة انتقائية، لابد دائماً –بطريقة أو بأخرى– أن تُربط معاً بالقوة". فاستقر الاختيار على الهاشمي فيصل بن الحسين. ولم تكن سياسة تنصيب حاكمٍ من غير أبناء البلد بالجديدة حينها، ولم يبتدعها البريطانيون. العثمانيون الذين حكموا العراق قبلهم أربعة قرون قسّموه لثلاث ولايات (الموصل، بغداد، البصرة)، وكان قرار تنصيب ولاتها وإعفائهم يصدر من إسطنبول حصراً ويقتصر على الأتراك. 

بعد 37 عاماً سقط النظام الملكي الهاشمي عام 1958 بانقلاب عسكري على النظام الملكي قاده الجنرالان عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف وتم تأسيس الجمهورية العراقية. ولم يلبث قاسم طويلاً حتى أطاح به عارف بانقلاب عسكري آخر عام 1963 بمساعدة البعثيين الذين انقلب عليهم عارف بعد أشهر معدودة.

مات عبدالسلام وخلفه أخوه عبدالرحمن عارف الذي أطاح به البعثيون عام 1968 بقيادة الجنرال أحمد حسن البكر والذي نحّاه صدام حسين عام 1979 ليستحوذ على الحكم إلى حين إسقاطه بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لينصّب بعدها بول بريمر حاكماً مدنياً ويختار مجلس حكم انتقالياً من أحزابٍ تقاسمت السلطة وفق مبدأ المحاصصة الطائفية المطبق إلى يومنا هذا.

وضعتُ هذا الموجز التاريخي المختصر لأوضح أن العراقيين لم يختاروا قياداتهم السياسية طوعاً، وإنما فُرضت عليهم لسنين طوال بقوة قاهرة، خارجية أو داخلية، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: لماذا لا يختار العراقيون قادتهم؟  

وفرة كفاءات.. وقلة قيادات

لن نسهب في شرح موقع العراق الاستراتيجي في المنطقة وما يتمتع به من ثروات وخيرات سال لها لعاب الشرق والغرب، وتعرض بسببها للغزو والمكائد مراراً وغيّر من تركيبته الاجتماعية تكراراً حتى استقرت إلى الوضع الذي هي عليه اليوم. ولا شك أن التدخلات الخارجية والإقليمية كان لها الأثر الأكبر في إبراز شخصيات نفذت أجنداتها وسياساتها الاستعمارية، إلا أن هناك عوامل داخلية نابعة من طبيعة الفرد والمجتمع العراقي أسهمت وبشكل مباشر في ندرة بروز القيادات، رغم وفرة الكفاءات وأصحاب المواهب والخبرات في مختلف المجالات. ومن أبرز تلك العوامل: 

1. الانقسام العرقي فالعراقيون عرب، وأكراد، وأتراك. والانقسام الديني المتمثل في التركيبة الدينية للبلاد التي تشمل؛ مسلمون، مسيحيون، صابئة، ويزيديون. والانقسام الطائفي المذهبي. ذلك فضلاً عن التعددية الفكرية والسياسية داخل الطوائف ذاتها، حيث صعب صهر المكونات في بوتقة واحدة بقيادة مختارة، لغلبة الانحياز للعرق والطائفة والقومية. وحين نقارن الوضع العراقي مع التعددية المنتشرة في جيران العراق، نلاحظ غلبة انتماء الديني في إيران وهيمنة الحس القومي في تركيا، في تكوين الدولة وقياداتها سياسياً وثقافياً وحضارياً، بينما لم يتحقق ذلك في العراق بسبب تلك الانقسامات العرقية والدينية والطائفية.

2. تغلب قيم البداوة والعشيرة على قيم الحضارة والقانون، خاصة مع ضعف الدولة، ومؤدى ذلك سيادة الطابع الثأري والتعصب والقانون العشائري ما حصر التأثير والسلطة لدى أصحاب السطوة والقوة والنفوذ، وإبعاد أصحاب الكفاءات عن ممارسة أي دور قيادي داخل المناطق والمدن أو في الحياة السياسية.

3. الاستبداد السياسي للأنظمة الحاكمة والذي فاق الاستبداد الأجنبي الذي خضع له العراق لقرون، وكانت أغلب نهايات الزعامات العراقية مأساوية ودموية، والأمثلة يعرفها العراقيون جيداً ويتفاخر بها البعض إثباتاً للوطنية!

تلك النهايات الدموية دفعت غالبية الأسر والبيوت العراقية لمنع أفرادها من البروز كقيادات في الحياة السياسية والاجتماعية، والتركيز على الجوانب المهنية الشخصية. ويمكن القول إن هذه الظاهرة بدأت تتضح وتترسخ معالها خلال فترة حكم البعث تحت تشجيع من الأخير، حيث تم توجيه أفواج من الخريجين أصحاب المؤهلات والمعدلات العالية نحو اختصاصات علمية أو مهنية بعيدة عن مجالات السياسة والإدارة والقيادة المجتمعية. 

4. النزعة الجدلية التي تطبعت بها الشخصية العراقية لقرون طويلة، وقد شرح الدكتور علي الوردي في كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" تاريخ هذه المشكلة وآثارها، وكيف أنه "إذا استفحلت النزعة الجدلية في شعب جعلته أكثر من غيره ميلاً للاطلاع والقراءة وأوسع أفقاً من الناحية الذهنية، ولكنها من الناحية الأخرى تجعله مشتت الأهواء والآراء، لا يستقر على مبدأ واحدٍ مدة طويلة، ولا يُعجب بزعيمٍ أو يلتف حوله ويستمر على تأييده".

النزعة الجدلية -حسب الوردي- "تجعل الناس مثاليين في تفكيرهم أكثر مما ينبغي، فإذا انتشر بينهم رأي أو ظهر زعيم؛ فلابد أن يجدوا فيه نقصاً على وجه من الوجوه، فهم يتحمسون له في البداية، ثم تقل حماستهم شيئاً فشيئاً، إذ هم يستخدمون تجاهه أقيستهم المنطقية ومثلهم العليا، فيرونه أوطأ مما تخيلوه عنه في أول الأمر، وعند ذاك يبدأون بالنفرة منه والانفضاض من حوله".

تلك العوامل على سبيل الإجمال لا الحصر، وهناك عوامل أخرى -أساسية وثانوية- يسبر غورها المختصون، وللأسف فإن أزمة القيادات لا تقتصر على الشأن السياسي وإنما تتعداه لمجالات أخرى يلمسها العراقيون في حياتهم اليومية، داخل العراق وخارجه، على مستوى الوعظ الديني والإفتاء ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والفنون والآداب والرياضة، وحتى العمل التجاري والصناعي، حيث يندر بروز قيادات قادرة على لملمة شتات هذا المجال أو ذاك وتطويره.

ضوء يزداد سطوعاً

ما ذكر من أسباب لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، خاصة مع تغير أنماط الحياة والتطور المعلوماتي والتكنولوجي والانفتاح العالمي على ثقافات وتجارب الدول والشعوب والمقارنة مع الأوضاع المحلية. والجيل العراقي الجديد تحمّل أعباء كبيرة ويحتاج إلى بذل جهد مساوٍ لحجمها للتخلص منها. وقد بانت بوادر التغيير في الحراك الثقافي والاجتماعي والسياسي عبر المظاهرات التي انطلقت شرارتها مؤخراً وما زالت مستعرة، ومن المؤمل أن تصل لمراحل ناضجة في الوعي لإبراز نشطاء ورموز يكتبون صفحة مشرقة في تاريخ العراق، بدون تجاوز مواطن الخلل، أملاً بالوصول إلى المرحلة التي يقطع فيها نسل التخلف والاستبداد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي هادي
كاتب عراقي مهتم بقضايا الفكر والسياسة وعلم الاجتماع
كاتب عراقي مهتم بقضايا الفكر والسياسة وعلم الاجتماع
تحميل المزيد