تغيّراتٌ كثيرة أصابتِ الشَّبابَ المصريّ خلال العقد الأخير. بعضها إيجابيٌّ، وبعضها سلبيّ، وكثيرٌ منها مطروحٌ للنقاش. الهُوية والعلاقات والدين والجنس والعمل، كلها ثيمات باتت محلّ جدل. تَململٌ عام، وشعورٌ بعدم الانسجام، والتحقق، والاتساق بين الواقع والمأمول.
كثيرةٌ أيضاً هي محاولات الفَهم والتحليل والتفكيك لهذه التّغيّرات: من المسؤول عنها؟ هل عواملها موضوعيّة متجاوزة لذوات الشباب أم أنّ للذوات يداً بها؟ هل يمكن التنبؤ بها؟ وما عواقب إمكانيات التنبؤ؟ هل نوظّفها أم نحكم عليها؟ هل هي مستدامة أم مرهونةٌ بطبيعة المرحلة؟
تختلف الإجابات، وعواقبها، تبعاً -بطبيعة الحال- لعوامل كثيرة، من بينها موقع السائل وهُويته.. لذلك، فإنني أحسب أن موقفنا نحن الكُتاب، بعد محاولة مقاربة هذه الأسئلة، والإجابة عنها ما استطعنا، ألّا نتعالى على الشباب، وأن نحرص على مدِّ جسور التواصل معهم، باحتواء وحبّ حقيقيين، وأن نتوقع أن تكون نتيجة ذلك، هي مبادلة الشباب لنا نفس المشاعر، الّتي ستنعكس إيجابياً على نظرتهم لذواتهم، وتحقيقهم مستوياتٍ أفضل من الاتصال الإيجابي مع الذات والآخرين، بدلاً من "العُصاب" الجماعيّ الظاهر الآن، ولعلّ في تجربة المرحوم -بإذن الله- أحمد خالد توفيق مع الشباب خلال رحلته الإبداعية دليلاً عملياً على ذلك.
أحاول، في هذا المقالة، تقديمَ مقاربةٍ لسؤال:"العمل"، حالته، وتطوره، في عالم مواقع التواصل الاجتماعي، في ظلّ جدل كبير عن مشروعيّة بعض أشكال العمل الشبابيّ الافتراضيّ، وطرق التهذيب والإصلاح؛ مستلهماً روح العرَّاب، حيث الحسّ النقديّ، التفكيكيّ، المشغول بالإصلاح الحقيقيّ، إن أمكن، أكثر من توجيه أصابع الاتهام للأطراف الأضعف، كالشباب.
الأجيال واختلاف مفهوم الشباب
ربما تبدو لك مقولة "الشباب" بديهيةً لا تحتاج إلى تعريف، فالشباب هم الشباب؛ ولكن الأمر بالنسبة لعلماء الاجتماع والديموغرافيا مختلف بعض الشيء. فبالرغم من أنّ لكل مرحلة عمريّة خصائصها المعروفة، فإنها تتفاعل مع المُحددات البيولوجية والنفسية الداخليّة من جهة، والأوضاع المحلية والطوارئ العالمية بشكل ينتج عادةً "جيلاً"، له سماته وتحدياته ولغته المستقلّة المميِّزة له، عن نفس المرحلة في سياق آخر، أو بمعنى أدق: فوالدكَ حينما كان شاباً، لا يشبه شبابُه شبابَك الآن، مع التأكيد على أنّ كليكما شباب، ولكنّ جيلك غير جيله.
بشكل أكثر تفصيلاً، شاع لدى علماء "المصريّات"، وهي محصلة العلوم المتقاطعة التي تدرس الشخصيّة المصريّة، تقسيمُ التاريخ المصري الحديث، منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى "أجيال"، لكلّ جيل رموزه، الذين كانوا شباباً في مرحلةٍ ما، وصنعوا حراكاً حسب أولوياتهم، الّتي تقاطعت مع كثير من الظروف المحلّية والعالميّة، والتي لم يكن معظمها في صالحهم.
ففي مطلع القرن التاسع عشر، خلال العقدَين الأول والثاني، كان هناك جيلٌ من "الشباب" المصريّ، يتفاعل مع الحضارة الغربيّة، على رأسه رفاعة الطهطاوي. وبعد عقدَين، كان هناك جيل يناضل ضد الاحتلال الإنجليزي، ويطرح رؤى دينيّة ثوريّة، كانت أبرز رموزه أحمد عرابي (1841- 1911)، ومحمد عبده (1849- 1905).
وفي العقدين الخامس والسادس من نفس القرن، ولد جيلٌ جديد من الشباب، عمِل لاحقاً على وضع أسس الحريّات المدنيّة، مثل الجامعة والأحزاب والصحف، وتمصير الاقتصاد، ومساندة الأجيال الأكبر في نضالها بثورة 1919، كما ساهم جيلُ الشباب المولود نهاية القرن التاسع عشر في أعمال سياسيّة وفكريّة مهَّدت لثورة 1952.
أمَّا الجيل المولود مطلع القرن العشرين، فقد ساهم فعلياً في ثورة يوليو/تموز مطلع العقد الخامس، وساهم في التأسيس للنظام المركزي الناصري، الذي كان له إيجابيات اجتماعية كبرى، مثل التوسع في التعليم، وسلبياتٌ عاصرها نفس الجيل عندما كبر، مثل نكسة يونيو/حزيران 1967. وقد شارك الجيل المولود في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين في حرب أكتوبر/تشرين، وعاصرَ تقديس الاستقرار بعد الحرب، وتراكم الرساميل الفرديّة الريعيّة في بعض القطاعات، والانفتاح على الغرب، والصحوة الإسلاميّة.
من الأعظم إلى Z
وعلى نحوٍ مماثل تقريباً، تُقسِّم الأدبيّات الديموغرافيّة الغربية الأجيال تقسيماً، يتّخذ من الحربيْن العالميّتين الكبريين فاصلاً زمنيّا جوهرياً، وهو تقسيمٌ رسخ بشكل جعل علماء الاجتماع المشارقة يتأثرون به نوعاً ما، خاصّة في تقسيماته الجيليّة الأخيرة، باعتباره تقسيماً ذا طابع كونيّ. فهناك جيلٌ وُلد في الفترة قبل عام 1928، يُسمى "الجيلُ الأعظم"؛ لأنه شارك في الحرب العالمية الثانية وانتصر.
يليه جيل وُلدَ في الفترة من 1928-1948، ويطلق عليه "الجيل الصامت"، لأنه عاصر الحربَ وعانى تبعاتها الأولى. وبعده جيل "الطفرة السكانية" الذي عاش استقرار ما بعد الحرب، ورفاهية الاقتصاد من نهاية الجيل السابق حتى 1965. ومن ثم سلّم الرّاية لجيل يمتد من 1965: 1979، وهو جيلٌ انتقاليّ، صُنف حسب موقعه من ذوي السلطة، وتعامله مع بواكير "التكنولوجيا" بأنه جيل مرتاح للسلطة.
ثمّ نصل في النهاية إلى جيل الألفيّة (Y) الذي يمتد ميلاده من 1980 حتى 1995، وجيل Z الذي ولد في الفترة من 1995 حتى عام 2010 تقريباً. وجيل "ألفا" الذي ولد في 2011 حتى 2030، أي أن نصف هذا الجيل الأخير لم يولد بعد.
الشباب المصري الحالي
التقسيمات في هذا الصدد كثيرة، وبعض التقسيمات تختلف في تفاصيل فنية دقيقة مثل زيادة عمر جيل أو إنقاصه عن الجيل الذي يليه -أو يسبقه- عاماً أو أكثر. لكن ما يهمنا هنا، الإشارة إلى أن كل جيل يؤثر في الجيل الذي يليه، بعض النظر عن طبيعة التأثير إيجاباً أو سلباً، وأن الأفق الزمنيّ للجيل الواحد حوالي 20 عاماً، وهي المسافة الزمنيّة لمتوسط الفارق بين ولادة الأبّ وولادة الابن عادةً، وأنّ لكلّ جيل تحدياته وسياقه ورجاله.
وبالنَّظر إلى هذه التقسيمات، فإننا نعيد تعريف "الشباب" المصريّ، الآن، بأنه قطاعٌ متأخر من جيل الألفيّة (بدايةً من مواليد 1985) وقطاع متقدم من جيل Z (حتى مواليد 2005 فقط) يعني الكتلة البشريّة التي يصل عمرها الحالي في أقصى تقدير 35 عاماً، وأقل تقدير 15 عاماً، لذا، فإننا لا نتحدّث عن شريحةٍ واحدة، ولكن شريحتين، سنحاول المقاربة بينهما، لمعرفة الملامح الرئيسية لتفضيلاتهم العمليّة، وما يفرضه عليهم الواقع في المقابل.
أهمّ ما يميّز هذه الشريحة العمريّة الممتّدة من سمات موضوعيّة، بعيداً عن الخصائص الذاتية، البيولوجية والنفسية، هو التشبّع بالتكنولوجيا، وما لهذا التشبّع من تأثير على عالمهم المحيط. فلك أن تتخيّل أن علماء الاجتماع يقرنون بين جيل ما قبل الألفيّة (1965-1979) وبداية التفكك الأسري لأسباب غير تقليدية، مثل بداية الانفتاح عبر ظهور التلفزيون والكاسيت والفيديو كليب؛ فما بالك بتلك الفئة العمريّة التي عاصرت ظهور الأقمار الصناعيّة، والهاتف المحمول، والإنترنت، وصولاً إلى الشبكات الاجتماعيّة، والهواتف الذكيّة والطابعات ثلاثية الأبعاد والتكنولوجيا الحيويّة؟
ليس المقصود هنا الإشارة إلى التأثيرات السلبية للتكنولوجيا، ولكن المقصود أنّ هذه الشريحة العمريّة الضخمة الآن، أكثر استغناءً عن مؤسسات الضبط الكبرى، الأسرة والمدرسة والمسجد والقنوات الرسميّة، تلك المؤسسات التي كانت تحتكر المعرفة، وأن هذه الشريحة أكثر ميلاً إلى الاستقلاليّة، والثقة بالنفس، وأكثر قدرةً على توجيه المؤسسات التقليدية، وأكثر انفتاحاً وتفهماً للآخر، وأقلّ تمسكا بالسرديّات الكبرى؛ وهو ما ينعكس، بالتأكيد، في جانب منه على طبيعة الأعمال، وطريقة إدارتها، وبيئة العمل، خاصة لدى الشريحة الثانية الأصغر من الشباب، جيل Z، كما سنرى.
وقد ظهر على ضوء هذه التطورات الأخيرة، والعلاقة العضويّة بين هذه الفئة العمريّة وبين التكنولوجيا فرعٌ في علم الاجتماع، يُسمّى: "علم الاجتماع الرقمي"، وبات هذا الشاب يحصل على صفة المواطنة مقرونةً بالرقميّة (المواطن الرقمي)، وتشير بعض الدراسات إلى أنّ هذا الجيل بات واقعاً تحت أسر الوجود الافتراضي الموازي، الذي يحمل وحداتٍ حياتيّة مشابهةٍ تماماً لتلك الموجودة في الواقع، ولكن بشكل افتراضي، ومنها تعريف ذاته كما يريد، وإقامة العلاقات، والبحث عن عمل، والسفر بل ومراسم الجنازة عند الموت، لدرجة أنهم لا يستطيعون الابتعاد عن الإنترنت أكثر من أربع ساعات.
أمَّا الحدث الأبرز في تشكيل هُوية هذا الجيل، حيث -كما ذكرنا- إنّ لكل جيل أحداثاً فارقة في تكوينه، محلّياً، هو فعل الثورة، ثورة يناير/كانون الثاني عام 2011، التي مثلت لحظةً مكثفةً لتفاعل هذا الجيل مع أبرز أدواته، الإنترنت، للتجمهر، مطالبةً برحيل الرئيس الذي أكل الشيبُ رأسه، مبارك، بعد شواهد كثيرة على رغبته في توريث الحكم لابنه، جمال، تأسياً بنجاح الثورة في تونس، شاهدوا أحداثها عبر الأقمار الصناعيّة.. ثُمَّ انتكاس هذه اللحظة، التي حملت مضامين وأحلاماً اجتماعية هائلة، بعودة النظام السابق إلى الحكم، بعد مدة وجيزة، في انقلابٍ، شارك في ترويجه فئةٌ من هذا الجيل، يوليو/تموز 2013، تبعه إجراءات لتجفيف كلّ قنوات الاتصال الرشيد مع هذا الجيل، وإصلاحاتٌ اقتصاديّة مُتعسِّفة بدّدت كثيراً من أحلامهم الاجتماعية، وجعلتهم يبحثون عن منافذ بديلة، كل على قدر حلمه: للكفاف، أو للترقّي الاجتماعي السريع.
أزمة الدولة والمجتمع
المُشكلة أن الدولة تخلّت تدريجياً خلال العقود الأربعة الماضية، الّتي شهدت ميلاد جيل الشباب المصريّ الحاليّ، عن دورها الاجتماعي، بل والسياسي بشكل من الأشكال، في مجاراة الزيادة السكانية، وتوزيع الموارد، ولو بأقلّ شكل ممكن من العدالة، ديموغرافياً، مع عدم استيعاب لطبيعة هذا الجيل ومتطلّباته؛ ما أفرز مفارخ وظيفية غير رسميّة، تعتمد بشكل رئيس على قطاعات ريعيّة غير منتجة.
فبينما يحتاج الشابّ إلى التأهيل، تعليمياً وصحياً، في مقتبل عمره، حتى يستطيع الحصول على وظيفة تنافسيّة منتجة، تؤمن له دخلاً مناسباً، يُمكِّنه من الحصول على بيت مقبول، يسعه لاستقبال زوجة وأبناء؛ تخبرنا الإحصاءات بأنّ مصر ظلّت تتأرجح خلال السنوات الماضية على المراتب الأخيرة، حرفياً، في مؤشرَي جودة التعليم وجودة المدارس، من بين 144 دولةً يشملها المؤشران.
وتشير الأرقام إلى أنه خلال الربع الثاني من 2015، مثلاً، بلغت معدّلات البطالة بين الشريحة العمرية (15-29) عاماً، وهي الفئة الأقرب على الإطلاق لتعريف الشباب كما نفترضه في المقال، أكثر من 26%. وبالأخذ في الاعتبار أن متوسط عدد الشباب، نسبةً إلى عدد السكان، وفقاً للتعريف الذي نعتمده، لا يقلّ أبداً عن 30 مليون نسمة، بل يزيد؛ فإننا نتحدث عن حوالي 10 ملايين شابّ عاطل، موزعين على القطر المصريّ بنسب متفاوتة، أو يعملون عمالةً غير رسميّة أو موسميّة لا يمكن توثيقها. وترقى مشكلة غياب تأهيل هؤلاء الشباب لسوق العمل المعاصر إلى درجة غياب وفشل المجتمع ككل، لا الدولة فقط، حيث تحلّ مصر في المرتبة 137 في مؤشر الاستفادة من رأس المال البشري، و129 في تأهيل العمالة الفنيّة، و133 في مهارة الخرّيجين، من أصل 141 دولة.
السيسي في مواجهة الجيل Z
لم يختلف نظام السيسي كثيراً عن مبارك في شأن تأهيل الشباب المصريّ للحياة. فإذا كان عهد مبارك قد اتسم بالتكلّس وعدم الرغبة، وعدم القدرة، على مواجهة المشكلات المتعلقة بإدارة الموارد البشرية بجدّية؛ فإن السيسي يبدو أكثر حماسةً فقط بشأن تطبيق سياساته التي ستستبعد شرائح كثيرة من الشباب الحاليّ (جيل Z تحديداً) من فرص التأهيل الجيّد، تعليمياً وصحيّا، لسوق العمل.
يرى السيسي أنّ الخدمة الجيّدة، حتى في هذه القطاعات الحيويّة، وليس الدعم والخدمات العامّة فقط، لا يمكن تقديمها إلّا بمقابل مرتفع يغطّي قيمتها وهامش الربح الباهظ لمقدّمي الخدمة، سواءً كانوا من الدولة أو القطاع الخاص. لذلك، ارتفعت أسعار المدارس الحكوميّة ارتفاعاً جنونياً خلال الأعوام الأخيرة، وبدأت الدولة تتوسّع فيما يعرف حالياً بـ"الجامعات الأهليّة". انتهت الدولة بالفعل من بناء 4 جامعات أهلية، تبلغ مصروفات أقل كلية نظريّة بها أكثر من 3 آلاف دولار سنوياً، وتتضاعف في الكليات العملية، وتُخطط لبناء 10 جامعات جديدة، لتخريج طالب عصري قادر على المنافسة داخلياً وخارجياً، كما يقول السيسي.
لا تنظر هذه السياسات الرأسماليّة، للأسف، إلى الكم الهائل من المشكلات والظواهر الاجتماعية التي تخلّفها، في المدن والريف، والتي تندرج ضمن محل الدراسة والبحث لمراكز البحوث الاجتماعيّة والجنائيّة. مشاكل مثل التسرّب من التعليم، وخاصةً للفتيات. وارتفاع سن الزواج للذكور، وزواج القاصرات. والتحرش، وقلة الخصوبة الناتجة عن الضغط النفسي، والانتحار، والإدمان، والطلاق المبكر، وارتفاع معدلات الجريمة. وباستثناء بعض الحلول الترقيعية هنا وهناك، لا يبدو أنّ النظام في طريقه لتغيير سياساته، حيث يعترف الوزراء بأريحية باقتصار الإنفاق على شِق بناء المدارس الجديدة على مواكبة الزيادة السكانية في المواليد، دون بناء مزيد من المدارس لتخفيف الكثافة الطلابية المرتفعة، بحجة غياب المخصصات المالية، وتحمل المواطنين المواليد الجديدة.
منذ عهد مبارك، تتسع الخيارات التأهيلية أمام أبناء الأسر المقتدرة: المدارس الخاصة، والتجريبية، والدولية، والتي تتضمن للخريج لاحقاً وظيفةً محترمة في الكادر الحكومي المحدود للدولة، أو في إحدى الشركات المرموقة، أو إدارة الأعمال الخاصّة (Start Up) أو في الهجرة للخارج، مثل المعلمين والأطباء. أمّا غير المؤهلين جيداً، من خريجي الجامعات، فإن كثيراً منهم يلجأ إلى مسار وظيفي لا يتطلب مهارات تخصصية عادةً، وهو خدمة العملاء في إحدى شركات الاتصالات (Call Center). وفي السنوات الأخيرة، بدأت أنماط جديدة من العمل تجتذب هذه الشريحة، إلى جانب خدمة العملاء، مثل قيادة السيارات مع تطبيقات النقل الجديد (أوبر) أو العمل الحرّ عن بعد (فريلانسينج): الكتابة، والتصميم، والتسويق، والمونتاج، والتجارة الإلكترونية إلخ. فيما تقاتل الفئات الأقل تأهيلاً، عادة، في القرية والمدينة، على فرصة لشراء مركبة نقل ثلاثية العجلات (توكتوك). المهنة المثالية غير الرسمية لقطاع هائل من الذكور في مصر، بدايةً من عمر المرحلة الابتدائية وحتى الفئات الأكبر.
المستقبل
يمثل العمل عبر الإنترنت بيئة مثاليةً لشريحة كبيرة من جيل الشباب، وبالأخص جيل Z؛ حيث ينظر له من هذا الجيل أولاً على أنه توجه استقلاليّ متسق مع طموحات الجيل، وطبيعة العصر. فما دمتَ قادراً على التعلم المستمر، عبر إحدى المنصات الرقمية، في تخصص ما مطلوب، فإن كثيراً من القنوات العربية والأجنبية ستكون مفتوحةً أمامك لعرض خدماتك وتلقي عروض من الزبائن.
كما ينظر له كوسيلة موازية لتقليص الفجوة بين متطلبات الواقع الباهظة تعليمياً وبين الطموح الكبير لبعض الشباب، حيث يُصبح الإنترنت وسيلةً رخيصة لصقل المهارات العملية. وبالنسبة لكثيرين أيضاً، فإنه أسلوب عمل عصري يتماشى مع مقتضيات العولمة المعاصرة التي تبدد حدة الزمان والمكان، فبمجرد الاتصال والتشبيك يصبح العالم مكتباً صغيراً، كما يعد العمل عبر الإنترنت بالنسبة إلى كثير من الشباب اليوم مكافئاً موضوعياً لنمط الهجرات التقليديّة التي كان يقوم بها جيل ما قبل الألفية (الآباء) في مصر إلى الخليج، حيث يمكن للكثيرين تحقيق دخل مجز بالعملة الصعبة عبر هذه "الهجرة الافتراضية".
ولكن في "أجيال بلا مربين"، كما يصف أحد الأصدقاء المهتمين بالعلوم الاجتماعية جيل Z في حاله بعد تراجع دور مؤسسات الضبط الكبرى، وفي ظلِّ عجز شريحةٍ غير صغيرة من الشباب، وبالأخص الفتيات، على اكتساب المهارات التخصصية من الإنترنت نتيجة ضعف التأسيس العام، ومع الرغبة في الترقي الطبقي السريع، لمجاراة أنماط الحياة المرفهة، لجأت بعض التطبيقات إلى استثارة النوازع البدائية لدى مستخدميها، لتحفيزهم، عبر دائرة مغلقة من الارتباط الشرطي القائم على تقديم المحتوى الغرائزيّ، والتافه، أو "تدوير" المحتوى الموجود بالفعل لجني المال، مقابل جذب الجمهور، من الذكور غالباً، ما يحقق للتطبيق استفادةً كبيرة من ديمومة استخدامه، وجذب الإعلانات، مع حصول "منشئ المحتوى" على الأموال والشهرة. وقد طوّر الذكور، من نفس الفئة الاجتماعية والثقافية، وظائف مشابهة نوعاً ما، تعتمد على التكنولوجيا، ولا تحتاج إلى المهارة أيضاً، وتروج ضمن فئة المراهقين حصراً، مثل "التصوير الفوتوغرافي".
لا يعد ذلك النمط من الأعمال التي تتخذ من الترفيه موضوعاً لها حكراً على مصر أبداً؛ إذ تعدّ عوامل ظهورها كامنةً في قلب معادلات الجيل الجديد بأي مكان: غياب الرقابة، ومركزيّة التكنولوجيا، البنيّة النفسيّة الهشّة لهذا الجيل، افتقاد المهارات التخصصية وضعف التأهيل العملي، الترفيه، الرغبة في العبور الطبقيّ، وتوفير بعض التطبيقات العدة النفسية والتقنية لذلك، وبالأخص تيك توك وما يشبهه. ولكن الأمر اتّخذ مناحي حادة في مصر خلال السنوات الأخيرة، لضخامة هذه الأنشطة الافتراضيّة وتشعّبها، واستهجانها اجتماعياً، واتجاه الدولة مؤخراً لـ"ضبطها".
كما ذكرتُ في مقال سابق، فإن النظام الحالي يسعى إلى مزاحمة المراهقين في هذه المنطقة، لأسباب كثيرة، من ضمنها أنها منطقة عمياء بالنسبة له، لا يعلم ما الذي يجري فيها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ولمنافسة المؤسسات الدينية شبه الرسمية على انتزاع تمثيل الدين لتوظيفه -الدين- لاحقاً لخدمته، وإعطاء المجتمع إحساساً "زائفاً" بالمراقبة والسيطرة على ما يحدث في مواقع التواصل الاجتماعي، كما تقوم وحدة الرصد التابعة للنائب العام بشكل مستمر منذ مدة، وتتبّع أحد منافذ الاقتصاد غير الرسمي. وهو نفس الدور الذي يقوم به، معكوساً، مع طليعة شبابيّة منتقاة، في برامج تأهيل الشباب للقيادة، كي يتعلموا أن يكونوا "تروساً" ماهرة في ماكينة عمل الدولة الجديدة التي يرسمها السيسي، نواباً للمحافظين والوزراء، يتبنّون خطابه وأطروحاته بحذافيرها.
يعتقد السيسي أنّ كثيراً من حلول مشاكله الشخصيّة مع الشباب يكمن في المزيد من "الضبط والتلقين"، لا في تردّي السياسات الاجتماعية والاقتصادية العامة التي يتبعها، لذلك يشدد منذ ظهوره مرشحاً لرئاسة الجمهورية، على ضرورة عودة مؤسسات الضبط الكبرى للاضطلاع بدورها، ولا يزال إلى الآن يناقش مع وزراء الشباب والتعليم والإعلام والأوقاف والدفاع، ما يسميه إعادة تشكيل الشخصية المصرية، وبث الوعي، وتوحيد المفاهيم، نصاً. وهو إن كان قد نجح في ذلك إلى حد كبير مع جيل الألفيّة، الذي استسلم لقدره بعد فشل الثورة، وبات منكبّاً على شؤونه الشخصية في ظلّ صعوبة الحياة وكثرة الالتزامات مع بداية تكوين الأسرة؛ فيبدو أن أمامه مجهوداً كبيراً لتكرار نفس الأمر مع جيل "Z" الأقل سناً، وجيل "الألفا" الناشئ، كما بدا من نتائج حراك سبتمبر/أيلول الأخير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.